الهروب

قبل سبعة أشهر انتقلت إلى الجانب الآخر من المعمورة. لم يكن قرار الانتقال سهلا، لكنه لم يحتج لوقت طويل. الرغبة في مغادرة لبنان كانت حاضرة في ذهني كأمر واجب منذ أكثر من سنتين. تلقي عرض العمل عبر الهاتف، ثم في البريد الإلكتروني جعل من الرغبة أمرا واقعا. لكنه ليس قرارا فرديا. سألت رلى رأيها، وهو رأي حاسم. قدمت كل الحجج التي يمكن ان تقنعها بخوض المغامرة، مع التمني الضمني بأن ترفض. الهجرة، وليس الاغتراب في حالتنا، أمر صعب. التغيير سهل نظريا، أما في الواقع، فهو صعب. وافقت رلى، وقدمت كل الدعم، وتخلت عن عمل تتقنه وتحبه. تخلت عن محيطها الآمن. كان عليّ الانطلاق إذا، وعدم التطلّع إلى الوراء. وهكذا كان.

منذ ستة أشهر، وأنا أقاوم فكرة الكتابة. أخشى من مصارحة نفسي، فكيف أصارح العموم. مشتاق لكثير من الأفراد. أشتاق لجلسات السمر والنميمة والنقاش الحاد مع نادر وإرنست وحسين. أشتاق للمناكفات مع والدي. لحضن أمي. أشتاق لبنات أختي، ولأخواتي. أشتاق للأصحاب. لجلسات البلاي ستايشن. للخروف الذي لم يذبح. لمحاولات خلق عمل محترم. للكؤوس التي لم تشرب. لحضور مباراة النجمة. لا يمكن أن أعدد كل ما أشتاق إليه أو من أشتاق إليه. الشوق يأكلني. لكن لا مجال للالتفات إلى الخلف.

الهزيمة قاسية. أقسى ما فيها، أن تكون فردا مهزوما. لا فكرة تحضنك، ولا جماعة تنتمي إليها

في الماضي القريب، كنت شابا مهزوما. شابا في مطلع الثلاثينات، تقزمت أحلامه لحدود تافهة. صحافي انتهت مهنته في لبنان؛ على الأقل كما كان يطمح لممارساتها. كائن سياسي هزم بالكامل مع هزيمة الربيع العربي. ربيع اجتاحته رياح المستبدين والإسلاميين الخماسينية. اكتملت فصول الهزيمة مع المقتلة السورية. رأيت بعيني الموت والهزيمة. تكاتفت طائرات البعث ولحى الإسلاميين، وهزمتنا. حلم الحرية صار بعيدا. حلم الديمقراطية دفن. الهزيمة قاسية. أقسى ما فيها، أن تكون فردا مهزوما. لا فكرة تحضنك، ولا جماعة تنتمي إليها. فرد مع مجموعة أفراد. تذكرت هؤلاء الأفراد عندما رأيتهم في حديقة سمير قصير. الاسم هنا يغش. هي ليست حديقة. هي بالحد الأقصى مصطبة، تجمع منذ انطلاقة الثورة السورية، مجموعة أفراد تذكر نفسها كل حين بأنها لا تشبه الديكتاتور. أفراد، يواجهون أيديولوجيات شمولية لا ترحم. نحن مهزومون أيها الأصدقاء.

رفضهم الاعتراف بالهزيمة، يؤكد جبننا، نحن الذين اعترفنا وهربنا. أحسدهم على هذا الإصرار، وأشتاق لهذه اللحظات التي يرتفع فيها منسوب الأدرنالين في الجسم، ويقاومه العقل لإدراكه أنه ناتج عن إغراء كاذب. إغراء خادع.

عودة إلى الهجرة. هربت من هزيمتي، وقررت النجاة مع ابني وزوجتي، علّه يحصل على حياة أفضل. ربما أعود إلى هزيمتي الأولى، لو هزمت هنا، وربما أعيش حتى أنفاسي الأخيرة في الوطن الجديد.

رفضهم الاعتراف بالهزيمة، يؤكد جبننا، نحن الذين اعترفنا وهربنا. أحسدهم على هذا الإصرار

لا يمر يوم هنا إلا وتتسارع المقارنات في رأسي. كل يوم، يزداد حقدي على من أوصل بلادي إلى الدمار. كل يوم، أشعر بانتماء أكبر لهذه البلاد التي نشأت على دعوات كرهها ومحاربتها. أكتشف كم كانت معرفتنا بها عبارة عن أحكام مسبقة تافهة. طبعا لا أقول إنها بلاد كاملة. يوجد ظلم هنا. يوجد قهر. لكن هناك حلم وحب. تحيات الصباح التي تتلاقاها من غرباء، تبدو كصفعات تؤنبك على كل مرة فكرت فيها بضرورة هزيمة هذا الشعب. جارك الذي يعرض مساعدتك في تجهيز شفتك للسكن، بعد دقائق على لقائه، وينفذ عرضه، يجعلك تعتذر عن تلك اللحظات. تخجل من الجدة التي تلتقيها وحفيدها في الحديقة العامة، وتسألك عن أحوالك، ثم تبادر لإغراقك بكم من المعلومات المفيدة لك كمهاجر.

الحب هنا كثير، كذلك القسوة. لكنني أشتاق لأفراد لا يعوضهم أحد. اكتسبت صداقات هنا. أسهر أصحاب، أشعر بأنني أشاركهم حياتهم منذ زمن. لكنني أشتاق. لن يدفعني الشوق للنظر إلى الخلف. لكن قلبي معكم. قلبي مع من أحب. مع المدافعين عن الحرية في بلادي. مهزومون هم، لكنهم لا يخضعون. أما عقلي، فهو على ضفاف نهر يحيط بالعاصمة التي تحكم العالم. لا بد أن تمر جثث من قتل أحلامنا يوما في هذا النهر أو ذاك. حتى ذلك الحين، أحبكم وأحسدكم على القدرة على الاستمرار.