التدويل في لبنان… من المتصرفية حتى “استان إيرانى”

“حزب الله” اليوم ليس في الموقع الذي شكلته المتصرفية للباب العالي، كما أنه ليس مكوناً مندمجاً في جمهورية جمال عبد الناصر العربية المتحدة… هو عملياً تأسس كامتداد عضوي للحرس الثوري الإيراني.

  • ربيع فخري – ثائر غندور – بشار الحلبي

لم يغب التدويل يوماً عن الخطاب والممارسة السياسية منذ لحظة إعلان دولة لبنان الكبير قبل مئة عام حتى إعلان مبادرة بكركي الأخيرة لعقد مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان، وإعلان حياده عن الصراعات الخارجية وتحديداً النزاع الإيراني- الأميركي في المنطقة. وإذا ما راجعنا التجارب السابقة، يتبين لنا أن عناوين مبادرة اليوم هي جزء من “عدة الشغل” البطريركية التقليدية التي استعملت في الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي. 

المشكلة هنا، ليست في التدخل بعينه، بقدر ما هي في طبيعة هذا التدخل. فالمكونات السياسية التقليدية لا تتقن سوى شكل أحادي للتدويل يتمحور في الشكل والمضمون حول مفهوم الحمائية الدولية الرعائية، التي تُستعطى منها الامتيازات والضمانات للجماعات المحلية، ويُعاد عبرها إعادة تشكيل معادلات تشارك القوة والنفوذ الداخلية. 

التدويل إذاً، هو سمة مرافقة للكيان اللبناني منذ تأسيسه، والولاء لقوى الخارج هو جامع مشترك بين كل من تناوب على حكم لبنان وترأس منظومة القوة المهيمنة منذ تأسيسه حتى اليوم. تختلف الأطراف. تعيد تموضعها. تتبدل مواقفها ولكن الجوهر نفسه. فالصيغة اللبنانية أعجز من أن تؤمن حالة من الاستقرار السياسي من دون الحاجة للتدخل الأجنبي المباشر.

المكونات السياسية التقليدية لا تتقن سوى شكل أحادي للتدويل يتمحور في الشكل والمضمون حول مفهوم الحمائية الدولية الرعائية.

التدويل كأداة الحكم في لبنان

تسبق فكرة التوجه للمؤتمرات الدولية تاريخ إعلان لبنان الكبير، لا بل إنها من الأفكار المؤسسة له وتمكن العودة بها إلى زمن تأسيس متصرفية جبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً بعد الاحتراب الطائفي عام 1861، حين شكلت الحمايات الخارجية المباشرة الضامن الأساسي للاستقرار في تلك الفترة. ومعها تكرست معادلة استقرار داخلي كمقابل للنفوذ الخارجي الذي يختلف باختلاف اللاعبين الدوليين وبناء عليه تتنوع طبيعة أدواته الداخلية.

تطورت الفكرة في مرحلة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية مع تشكيل الوفود التي توجهت إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 لطرح القضية اللبنانية. واتخذت الحمائية السياسية الخارجية للجماعات المحلية منحى مختلفاً في فترة الانتداب مع نمو البنية المؤسساتية الممكنة لها. واستمرت في فترة ما بعد الاستقلال حين كان للتدخلات الخارجية السياسية والعسكرية، وفي أكثر من مناسبة، ممر أساسي للحل أو اللاحل في لبنان، من طرد الانتداب الفرنسي إلى انتفاضة 1958 واتفاق القاهرة عام 1969، مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، وصولاً إلى اتفاق الطائف، الذي كرّس هزيمة المارونية السياسية. وتواصلت الفكرة، مع تغير الرعاة الإقليميين، حتى اتفاق الدوحة عام 2008 الذي كرس مفاعيل انتصار “حزب الله” في العملية الجراحية المفتعلة في السابع من أيار/ مايو من ذلك العام، وما بينهما من مؤتمرات ذات طابع اقتصادي مالي. وفي كل حقبة زمنية، كان لترؤس إحدى الجماعات المحلية لمنظومة تشارك النفوذ والقوة، محدد خارجي. 

هكذا تناوبت الحمايات الدولية على دعم الجماعات المحلية وصولاً إلى التطور النوعي في العلاقة ما بين “حزب الله”، كالحزب القائد لمنظومة الحكم في لبنان، وامتداده الإقليمي المتمثل بنظام الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران.

الحزب لا يريد للبنان أن يكون كياناً فطرياً يعيش على هامش النفوذ الإيراني من جهة كما لا يريده تابعاً مندمجاً في العمق العروبي ومذوباً في ميكانيزمات صناعة القرار العربي.

“حزب الله” كأنموذج متقدم للتدويل في لبنان

في مساره السياسي والتنظيمي، قدّم “حزب الله” أنموذجاً متقدماً من تدويل السياسة اللبنانية الداخلية. فتأسيسه في لبنان، أتى بقرار “ثوريٍّ” إيرانيٍّ كي يعطي زخماً جيوسياسياً للمنظومة الولائية الناشئة في طهران ويؤسس لمشروعيتها الإسلامية القيادية، في ظل حربها مع العراق وحاجتها الأساسية لرأس جسر يربطها بـفلسطين، المصدر المركزي للمشروعية الذي قامت عليه كل منظومات القمع والشقاء المشرقي منذ عام 1984، من جهة، ومن جهة أخرى ليلبي حاجة قيادات وفعاليات شيعية لتقديم نموذج من الأداء السياسي للشيعة مختلف عن تموضعاتهم في الحركة الوطنية وتشكيلاتهم الثقافية السياسية تحت عباءة الإمام موسى الصدر.

هكذا، ومنذ ما قبل تأسيسه، كان الحزب تدويلاً في المشهد السياسي اللبناني، لكنه في العقود الأربعة الماضية شكّل أنموذجاً متقدماً في طبيعة الارتباطات الخارجية للأطراف اللبنانية. فهو قطع مع النمط الحمائي الرعوي للتدويل (أي ضمان الحمايات المحلية من ضمان مصالح ونفوذ الخارج) الذي سعت إليه البطريركية المارونية، ومعها المنظومة القيادية للمارونية السياسية، تاريخياً عبر تأطير علاقتها مع الدول الغربية عموماً، ورسخته في أكثر من مناسبة. كما تقدّم أنموذج الحزب على فكرة الارتباط الخارجي الاندماجي العروبي للسنية السياسية في لبنان، والذي تبلورت ملامحه في الخمسينات من القرن الماضي وتعاظم بعد اتفاق الطائف، واستمر حتى اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، ثم نازع مع الرئيس فؤاد السنيورة ودُفِن مع تجربة سعد الحريري في رئاسة الحكومة.

في هذا السياق، تصبح علاقة “حزب الله” مع منظومة الحكم الإيرانية وامتدادتها التنظيمية والإجرائية أنموذجاً متقدماً من صيغ التدويل اللبنانية. فالحزب لا يريد للبنان أن يكون كياناً فطرياً يعيش على هامش النفوذ الإيراني من جهة كما لا يريده تابعاً مندمجاً في العمق العروبي ومذوباً في ميكانيزمات صناعة القرار العربي. هو يريده على صورته ومثاله، جزءاً عضوياً من “أرخبيل” النفوذ الإمبراطوري لمنظومة ولاية الفقيه وتقاطعاتها الدولية من كاراكاس حتى القرداحة. وهكذا سعى إلى تحويل لبنان كامتداد عضوي للنفوذ الإمبراطوري الإيراني، وتحويل لبنان إلى ما يشبه المحافظة 32 الإيرانية (استان إيرانى) والتي تُدار بشكل من أشكال الحكم المستقل في الشكل والمرتبط بميكانيزمات اتخاذ القرار وصناعته.

في الخطاب، لطالما نظر “حزب الله” إلى موقعه كمركز حماية المستضعفين ومقاومة “الاستعمار الخارجي” الذي يُحدده جغرافياً بالغرب الاستعماري والذي يتمثل فيه تكثيف الاستكبار العالمي تبعاً لمنظومته المفاهيمية. لكنه في الجوهر، وفي طريقه إلى احتكار تمثيل “مستضعفي الشرق” مارس في الميدان دور الاستكبار المشرقي. هكذا ومن موقعه البنيوي في منظومة الحرس الثوري للجمهورية الإسلامية، أصبح الحزب عقدة مركزية في غرفة عمليات جبهات العراق واليمن وسوريا ولبنان، بما يزيد من القيمة التفاضلية للموقع الجيواستراتيجي لمنظومة الولاية العقائدية التي ينتمي إليها. فـ”حزب الله” اليوم ليس في الموقع الذي شكلته المتصرفية للباب العالي، كما أنه ليس مكوناً مندمجاً في جمهورية جمال عبد الناصر العربية المتحدة، ولا حتى من رعايا الملكية السعودية في مرحلة الحريرية السياسية. هو عملياً تأسس كامتداد عضوي للحرس الثوري الإيراني ليلعب دوراً بنيوياً يترواح بين مهمّاتية دور جهاز الاستخبارات الألماني الشرقي، المعروف بالشتازي، بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي والمحورية السياسية والإدارية والاجتماعية لحكومة الجنرال فيشي بالنسبة إلى ألمانيا النازية. وهذا ما يحتاج إلى المزيد من البحث المقارن في مراحل نمو الحزب المختلفة. 

لكن ومن أكثر المشاهدات المتناقضة في متابعة النقاشات التي يخوضها مفوهو الحزب الرسميون وغير الرسميين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو اتهامهم المختلفين معهم بالتدويل والعلاقة مع الخارج، في الوقت الذي يتهامسون في ما بينهم باحتمال أن يكون السيد حسن نصرالله من ضمن الأسماء المرشحة لخلافة الولي الفقيه. ناهيك عن معطيات شبه رسمية تقول إن الأمين العام للحزب رفض تولّي مهمة قيادة فيلق القدس خلفاً لقاسم سليماني، وما بين هذه وتلك، إعلان نصرالله الرسمي عن الولاء المطلق مالياً وعسكرياً للولي الفقيه، الذي لطالما صدح مناصرو الحزب باسمه عالياً لترهيب خصومه خصوصاً في الجامعات.

إنقاذ لبنان… مؤتمر دولي؟

تعود بكركي إلى الواجهة عبر المطالبة بمؤتمر دولي لإنقاذ لبنان وتحييده عن صراع المحاور، مع ما تحدث عنه البطريرك بشارة الراعي من حزمة شعارات سياسية، وصولاً إلى تبنيه الدولة المدنية الكاملة والحديث عن أهمية العلاقة المواطنية من خارج الهوية الطائفية، لدورها التأسيسي في ولادة لبنان الكبير. لكن المبادرة في شكلها هي محاولة من بكركي لإنقاذ نفسها، وإنقاذ النظام اللبناني الذي ما زال يعكس جزءاً من كيانية صنعها بطاركة سابقون، وهو ما يعني عملياً منع انهيار منظومة الحكم التي يقودها “حزب الله”. فموقف البطريركية الداعم لرياض سلامة، الذي أدار، لمصلحة منظومة القوة الحاكمة، عملية نهب غالبية اللبنانيين عبر النظام المصرفي، أو الفساد في الكثير من المؤسسات، وفشل في تقديم منظومة حماية اجتماعية في ظل الانهيار الاقتصادي، إضافة إلى الغطاء التي أمنته بكركي لأكثر من عقد ونيف للقيادات السياسية المسيحية المنضوية في بطانة الحزب. كل هذه العوامل تجعل المبادرة ضرورية لبكركي ودورها ووجودها أكثر منها للبنان.

لكن بكركي تواجه معضلة أخرى، فهي لا تمتلك الأدوات التنفيذية لتحقيق هدفها المنشود وقد يكون ارتكازها على “عدة شغل” قديمة، نوعاً من أبرز نقاط ضعفها. لكنها بالمجمل، وبشرط استمرارها، قد تكون حققت هدفاً أساسياً على المستوى الداخلي عبر سحب ورقة “الحليف المسيحي القوي” من أيدي حزب الله. فتحالف مار مخايل انتهى بالضربة القاضية والعهد، في ما تبقى منه، أصبح عبئاً على الحزب ومفرّغاً من أي قيمة مضافة. 

هكذا، وأمام مشهدية بكركي، ومسارعة الحزب لتفادي الاشتباك المباشر معها، لا يمكننا إلا محاولة استشراف موقعه من المتغيرات في الحراك السياسي العام لما بعد 27 شباط/ فبراير 2021. فنحن اليوم لسنا أمام بيان مطارنة آخر ولسنا أمام تأسيس لقاء قرنه شهوان جديد وبالتأكيد لسنا في زمن 7 أيار/ مايو 2005 (تاريخ عودة ميشال عون إلى لبنان). اليوم، أدخلت بكركي بحركتها السياسية “حزب الله” في موقع الخصومة المباشرة، أو اللاتفاق بأقل تقدير، مع الموقع المسيحي الديني الأول والأكبر في الشرق الأوسط. في الوقت عينه كان رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم يززور العراق ويلتقي بالمرجعية الدينية في النجف وكربلاء والتي تختلف مع المنظومة الولائية في الجمهورية الإسلامية وتوجهاتها السياسية في العراق وخارجه. الأمر الذي يجرد الحزب، حكماً من انتحال صفة حامي الأقليات في الشرق. وهو الدور الذي بنى عليه جزءاً من مشروعية تدخله في الحرب على الشعب السوري والمشاركة في تهجير الملايين من السوريين. ونظّر عبره لدور قاسم سليماني كالمخلص الفادي للتنوع في العراق.

مشكلة “حزب الله” إذاً مع مبادرة بكركي ليست في رفعها شعار التدويل ولا في مضمون خطاب البطريرك المطالب بتحييد لبنان بل في كونها أعادته، ومن خلفه المحور الإقليمي الذي يمثل، لانتمائه الأولي كجزء من الإسلام السياسي الذي يعجز عن بناء جسور الاتفاقات والتقاطعات مع المكونات المشرقية الأخرى. في هذا السياق خطر الحدث البطريركي الحقيقي هو في مساهمته في إسقاط نظرية حلف الأقليات الذي نظّرت له طهران – بذل  قاسم سليماني كل ما أمكن لترسيخها وتطويرها كالإطار السياسي والاجتماعي لتطبيع النفوذ الإيراني في المنطقة، في منهجية عمل تشبه إلى حد كبير منهجية عمله في بناء وتطوير النفوذ الإيراني بين القبائل الأفغانية، وركبت موجته دمشق واعتاشت عليه بعبدا، ورعته روسيا. لكن ما لم يهضمه المتسارعون في الرهان على المبادرة أن من يطرحها لا يمتلك حقيقة مفاتيح التدويل التي يحتكرها، في هذه المرحلة، محور الممانعة متمثلاً بـ”حزب الله” في لبنان.

17 تشرين ومتاهة التدويل

أتت لحظة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لتعبر عن تحول نوعي في طبيعة الخطاب الاعتراضي الإصلاحي للنظام اللبناني وخروجه من عباءة المؤسسات التقليدية لجمهورية ما بعد الطائف. فمهدت لعملية البتر السياسي مع منظومات القوة للطوائف. وكانت، ومنذ اللحظة الأولى، على تناقض مع المنظومة السلطوية بالكامل. فكانت “الحرمة الثورية” في وجه احتمالات التقاطع مع أحزاب السلطة والمؤسسات الطائفية المتدخلة في المشهد السياسي والمنتفعة أساساً منه. وهكذا كانت العلاقة مع بكركي التي وفّرت وإلى الأمس القريب أنبوب الأوكسيجين الوحيد، لربما، المتبقي للعهد و”زعامة” جبران باسيل.

لكن “اللامداراة” في الموقف من مؤسسات المنظومة الحاكمة لم ينسحب على الخطاب السياسي. فالمجموعات “الثورية” مارست شكلاً من أشكال الرقابة الذاتية على الخطاب لأسباب وعناوين مختلفة، أبرزها الموقف من “حزب الله” والعلاقة معه. بداية، كان الرهان على تحييد الحزب وشخص أمينه العام لتفادي الاستعداء “غير المبرر” للجمهور الشيعي، في محاولة أثبتت فشلها وقصرها عن فهم طبيعة دور الحزب في المنظومة الإقليمية. كان الرهان على أن يأخذ موقفاً داعماً للتغيير. فكان رد الحزب بالتخوين والحديث عن عملاء السفارات. توسع الخطاب فشمل المنظومة السياسية للحزب من دون الأمين العام، فكان أن أتى الجواب ضرباً وحشياً في النبطية وكفرمان وحرقاً للخيم في صور وتكسيراً وتشبيحاً على جسر الرينغ وساحة الشهداء.

وقعت المجموعات، بعضها على الأقل، في فخ تقديم الدفوع لإثبات “وطنيتها” بما يتلاءم مع الهوامش الضابطة التي حددها الحزب.

هكذا، تحوّل “حزب الله” ومواقفه وتموضعه الإقليمي لما يشبه الفيل الموجود في غرفة صناعة القرار السياسي لأغلبية مجموعات الثورة. فالترهيب الذي مارسه الحزب مباشرة تجاه الأفراد والمجموعات في بيروت والجنوب وصدى التصفيات الإرهابية التي نفذها محوره بحق المنتفضين في بغداد، كانا كفيلين بتحديد هوامش الخطاب المقبول وذلك المرفوض.

في المقابل، وقعت المجموعات، بعضها على الأقل، في فخ تقديم الدفوع لإثبات “وطنيتها” بما يتلاءم مع الهوامش الضابطة التي حددها الحزب. كانت هذه اللحظة التي نجح بها “حزب الله” في وأد انتفاضة 17 تشرين وتدجينها وتحويلها لما يشبه هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديموقراطي المعارضة، والتي شكلت المعارضة الداخلية لنظام الأسد في مطلع الثورة السورية. الفارق أن الحزب لم يتمكن من إيجاد حسن عبد العظيم آخر، وإن سعى مواطنون ومواطنات إلى إنتاجه بمجهودهم الذاتي.

ما العمل، إذاً؟

منذ 17 تشرين والمنظومة الحاكمة تتضامن في ما بينها وتتعاضد تحت إشراف الأمين العام لـ”حزب الله” ومنظومته المهيمنة. بعد الرابع من آب/ أغسطس، تراصت المكونات الحاكمة مع تفجير بيروت وكأنه “قضاء وقدر” (كما ذكر وزير الصحة وممثل “حزب الله” حمد حسن) وبالعقلية نفسها التي حكمت الأيام الأولى التي تلت اغتيال رفيق الحريري، حين كانت استراتيجية الحكومة آنذاك تقوم على ردم حفرة التفجير بعد أيام العزاء الثلاثة وتعبيد الطريق وشطفها (كما صرح وزير الداخلية السابق سليمان فرنجية)، تمهيداً لاستكمال الحياة بسياقها الطبيعي وكأن شيئا لم يحدث. لكن ضخامة الجريمة منعت القاتل، مرة أخرى، من المشاركة في دفن الضحية.

ظهّر تفجير بيروت، بما لا يحتمل الشك، الارتباط العضوي بين مختلف مكونات المنظومة الحاكمة في لبنان. فكانت سلسلة الحمايات المتبادلة بين الفساد والميليشيات لتعكس واقع أن المواجهة السياسية الميدانية يجب ألا تبقى أسيرة الهامش السياسي الذي تحدده خطابات الأمين العام لـ”حزب الله” الدورية، التي ازدادت وتيرتها بعد 17 تشرين، والتي غالباً ما تحدد إطار العمل السياسي المباح في مساحة الجمهورية اللبنانية. وأظهرت تحقيقات الصحافيين اللبنانيين بالانفجار التحالف المتين بين منظومة الفساد والحماية السياسية والسلاح غير الشرعي، لتوفير الحماية للقاتل والفساد ولمن وفّر فرصة لتحويل مرفأ بيروت لقنبلة شبه نووية موقوتة بعد تحويله لمرفأ في خدمة النظام السوري وماكينة القتل الخاصة به.

كما أشارت تداعيات التفجير لحقيقة أن العمل السياسي الداخلي سيبقى قاصرا إذا ما لم يقترن باستراتيجية عمل تهدف التأثير في الرأي العام الدولي بما يتعلق باستراتيجيات التعاطي مع منظومة الحكم في لبنان. فالمبادرة الفرنسية والجهود الدولية جرى استيعابها وهضمها داخليا في مسار إعادة إنتاج ميزان القوة المهيمن نفسه. لذا أصبح التدويل حاجة مكملة للنضال في الداخل اللبناني. لكن التحدي يبقى في طبيعة التدويل المنشود وأدوات عمله ومنهجيات عمله التي تحمي السيادة الوطنية، وتمكّن النضال في الداخل اللبناني من دون استنساخ لا الحمائية الرعائية للمؤتمرات الدولية ولا الانتماء العضوي لمنظومة إمبراطورية.

ما العمل؟ يبقى هذا سؤالاً مركزياً يجب التصدي له في تحديد ملامح الحركية التنظيمية والسياسية الخارجية. هنا، تأتي مهمة التحرر، بداية من الترهيب الفكري الذي يمارسه “حزب الله” والمنظومة، في الأولوية في الطريق نحو بناء استراتيجيات عمل للتأثير بالرأي العام الدولي ومراكز صناعة القرار. فالتدويل، مطلب حق يُراد به حق. فلا محاسبة لمن نهب أموال المودعين وأفلس البلاد من دون التوجه نحو المنظومة المالية الدولية والادعاء على الناهبين بهدف محاسبتهم وتجميد ثرواتهم واستعادة أموال الناس. 

كيف يمكن الوثوق بأن نظاماً قضائياً معيناً من سلطة مارقة يمكنه التحقيق بشفافية ويحاسب من عيّنه؟ هكذا يصبح من الصعب في مكان كشف الحقيقة واحلال العدالة في جريمة تفجير مرفأ بيروت من دون التوجه نحو منظومة العدالة الدولية بهدف قيام تحقيق دولي شفاف يكشف حقيقة من تسبب بتدمير عاصمة اللبنانيين وقتل أكثر من مئتي مقيم ومقيمة. ولا إمكانية لوقف مسلسل الاغتيال السياسي المستمر دون تسمية القاتل بشكل مباشر. والسعي الحثيث لكشف ملابسات الاغتيال ومحاكمة الجناة.

السؤال الثاني هو كيف يكون هذا التوجه؟ هل يمكن تشكيل لوبي ضغط لبناني، غير مذهبي وطائفي، ينسّق عمله بين الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية والمنظمات الدولية والصين، بهدف ربط أي مساعدات للبنان بسلّة محددة وبسيطة، تبدأ من إقرار قوانين استقلالية القضاء وتنظيمه وإعادة تدريب العاملين فيه من قضاة وموظفين ومحامين وعسكر، وتأسيس جهاز رقابة ينظم عمل هؤلاء، وبإشراف دولي، ليكون هو الخطوة الأولى في تحقيق العدالة للبنانيين. العدالة من القتلة! العدالة من اللصوص! العدالة من المعتدين! العدالة من المنظومة الذكورية! العدالة لكل إنسان وإنسانة في لبنان.

لا يمكن أن يستمر اللبنانيون بالعيش في نظام يعاقب الضحايا ويكرم القتلة. فالعدالة هي أكثر ما يحتاجه الناس ولأجل هذا الأمر، فإن مجموعات الثورة مدعوة لإطلاق ورشة عمل مشتركة في الداخل والخارج لبناء أدواتها المطالبة والدعائية المباشرة على المستويات السياسية والإعلامية والحقوقية والأكاديمية والثقافية. لبنان اليوم تحت الاحتلال، وتحريره مهمة مشتركة مطلوب التصدي لها. مواجهة الاحتلال ضرورية، ومواجهة امتداداته المحلية ضرورة حتمية.

نشر في موقع درج بتاريخ 11 مارس 2021

لن نسامح

Eb23MXzWkAIcx8p
في اليوم 258 من انتفاضة اللبنانية (تصوير حسن شعبان)

في آب 2018 كتبت:

“في الماضي القريب، كنت شابا مهزوما. شابا في مطلع الثلاثينيات، تقزّمت أحلامه لحدود تافهة. صحافي انتهت مهنته في لبنان؛ على الأقل كما كان يطمح لممارساتها. كائن سياسي هزم بالكامل مع هزيمة الربيع العربي. ربيع اجتاحته رياح المستبدين والإسلاميين الخماسينية. اكتملت فصول الهزيمة مع المقتلة السورية. رأيت بعيني الموت والهزيمة. تكاتفت طائرات البعث ولحى الإسلاميين، وهزمتنا. حلم الحرية صار بعيدا. حلم الديمقراطية دفن. الهزيمة قاسية. أقسى ما فيها، أن تكون فردا مهزوما. لا فكرة تحضنك، ولا جماعة تنتمي إليها. فرد مع مجموعة أفراد. تذكرت هؤلاء الأفراد عندما رأيتهم في حديقة سمير قصير. الاسم هنا يغش. هي ليست حديقة. هي بالحد الأقصى مصطبة، تجمع منذ انطلاقة الثورة السورية، مجموعة أفراد تذكر نفسها كل حين بأنها لا تشبه الديكتاتور. أفراد، يواجهون أيديولوجيات شمولية لا ترحم. نحن مهزومون أيها الأصدقاء. رفضهم الاعتراف بالهزيمة، يؤكد جبننا، نحن الذين اعترفنا وهربنا. أحسدهم على هذا الإصرار، وأشتاق لهذه اللحظات التي يرتفع فيها منسوب الأدرنالين في الجسم، ويقاومه العقل لإدراكه أنه ناتج عن إغراء كاذب. إغراء خادع. عودة إلى الهجرة. هربت من هزيمتي، وقررت النجاة مع ابني وزوجتي، علّه يحصل على حياة أفضل. ربما أعود إلى هزيمتي الأولى، لو هزمت هنا، وربما أعيش حتى أنفاسي الأخيرة في الوطن الجديد”.

كتبت حينها عن الهزيمة التي أكلتنا وعن الهروب من المستنقع اللبناني. خفت على ابني. على حاضره ومستقبله. خفت من عدم قدرتي على حمايته. دفعني الشعور بالعجز إلى الهروب. هاجرت. اعتقدت أنني نجوت. ثم أتت لحظة 17 تشرين الأول. انتفض اللبنانيون. صار توقيت بيروت يحكم صباحاتي. عشت الأمل رغم الشك. فرحت. تحمست. وانكسرت مع انكسار المنتفضين.

بت أشعر بالذنب كلما ضحكت، كلما أكلت، كلما غفوت. القتلة والسارقون لحقوا بنا حيث هربنا. لا يمكننا الهرب في هذه اللعنة

الانتفاضة جميلة، لكن الواقع بشع. لم يكن الانهيار بعيد. رآه كثيرون منا مهرولا. كُتب عنه وعن شكله. كذّب السياسيون توقعاتنا. ميشال عون. رياض سلامة. غازي وزنة. سعد الحريري. نبيه بري. كلهم قالوا إن الانهيار لن يأتي. مرشدهم، لم يقل الكثير عن الأمر… سوى أننا سننتصر. هو افترض انتصارنا في معركة لا كلمة لنا فيها. معركة لا نرغب بها. لا نعرف ما هي أصلا. أو ربما نعرف، ونخشى الإعلان. نخشى لأن سيفه على رقاب أصحابنا. هي معركة الدفاع عن مرشده الأعلى. الدفاع عن مرشد المرشد. ونحن، كلبنانيين في مئوية بلدهم الأولى، ما علينا سوى الجوع دفاعا عن طموحات مرشد المرشد.

ما علينا. لنعد إلى لبنان الذي نعرف. لبنان الأصحاب الذين يأتي صوتهم عبر الهاتف متكسرا. يرسل علي لي صورة من شاطئ صور ويقول: أتصدق؟ هذا شاطئ صور يوم السبت. أتصل به سائلا عن أحواله. يرد بالحديث عن المدينة التي نحبها سويا: “صور يا ثائر، باتت مدينة أشباح”. أتذكر حرب تموز؟ يسألني. ولا ينتظر جوابا ليضيف: “صور صور وضعها أسوأ من فترة حرب تموز”.

نحلل سويا. أستمع له. يشتم السياسيين جميعا. ويتمنى حلا. لا يعرف شكله ولا مضمونه، لكنه يقول: “فرنسا لن تتركنا”. أحاول أو أقول له إن الآتي أسوأ، لكنه يدرك. يقول لي: “في أيلول سينتبه الجميع إلى أن المدارس الخاصة لن تستطيع الاستمرار. ستقفل أبوابها لأن الأهالي غير قادرين على دفع الأقساط.. عشرات آلاف الأساتذة سيتشردون”.

اهتمام علي بالتعليم مفهوم. هو أستاذ مدرسة. لكن الأهم، هو ابن منطقة شكّل التعليم وسيلة أهلها للانتقال إلى الطبقة الوسطى. الخيارات الأخرى محدودة. أبرزها الهجرة، لمن استطاع لها سبيلا؛ الالتحاق بإحدى الميليشيات؛ العمل في القطاع العام؛ التجارة؛ الزراعة والمهن اليدوية.

يختم علي حديثه بالقول: “المهم انك تركت البلد. برافو. هيدا أفضل شيء عملته لابنك”.

EbYLCjhWsAA_Gmr
قبل كتابة الشعار أن اعتقل الصحفي بشير أبو زيد لأنه كتب على حسابه على فيسبوك: “طفوا بيت بري وضووا بيوت الناس” (تصوير حسن شعبان)

لم أستطع النوم تلك الليلة. كلماته لم تغاردني. أنا هربت. أنا أدرك ذلك. كتبته. قلتله للأهل والأصحاب. أنا هربت في العام 2018.. لأنني هزمت. ولأنني اعترفت بهذه الهزيمة بعد خمس سنوات على حصولها. لم يتهمني بشيء. قال علي كلماته بكل حب. لكنني لم أقو على النوم. اجتاحتني الكوابيس كلما أغمضت عينيّ. المشهد أسود. فكرت بالأمر. أنا أشعر بالذنب. لكنني لم أقترف شيئا. لست أنا من سرق البلد. ولا من مكّن مصارفه من رقاب اللبنانيين. ولا أنا من تولّى قطاع الكهرباء ونظّم عمليات الهدر والسرقة فيه من انتهاء الحرب الأهلية. ولا أنا مهندس الاقتصاد اللبناني بعد الحرب. ولست من منع التنمية الاقتصادية للأرياف. لا من قتل ما تبقى من نقل عام ومنع إعادة إحياء القطاع. وقطعا، لست أنا من حوّل الجامعة اللبنانية إلى مزرعته الخاصة. والأهم، لست أنا من يحمل سلاحاً بوجه اللبنانيين؛ يغتال بعضهم حينا ويكسر انتفاضتهم حينا آخر يبتزّهم دوما.

لن أسامح. لن أسامح كل واحد فيكم. أنتم القتلة. أنتم من سرقنا. من أذلنا. من اجتاح حلمنا ولوثه. لن أسامح وكثيرون مثلي. لن نسامح. سننتقم منكم يوما. نعرفكم واحدا واحدا.. ونعرف من هو مرشدكم

لم أشعر بالذنب إذا. لم أفعل أيا من الموبقات. بالعكس، أنا واحد من كثر رفضوا ما كان يجري في البلد. تحادثت من أصحاب، أحدهم في بريطانيا، وآخر في كندا والبقية في أميركا. جمعنا الشعور بالذنب. والأسوأ الشعور بالعجز. أحدنا ذهب إلى المتجر لشراء ثياب، لكنه ترك ما انتقاه في المحل، عندما حوّل المبلغ في ذهنه من دولار إلى ليرة لبنانية. بت أشعر بالذنب كلما ضحكت، كلما أكلت، كلما غفوت. القتلة والسارقون لحقوا بنا حيث هربنا. لا يمكننا الهرب في هذه اللعنة.

تقول لي صديقة من بيروت: لا تشعر بالذنب. هم المذنبون. لا تشعر بالعجز. بل قلّ كل الحقيقة. هم يريدون تغيير الوقائع. نحن سكتنا، لأننا بتنا في دولة في دولة بوليسية. نخاف على حياتنا. نخاف من الاعتقال، من الموت. قالت: “أخاف لو اعتقلت واغتصبوني.. ألا يصرخ أحدا دفاعا عني. أنت ومن هرب يمكنكم أن تصرخوا. يمكنكم أن تكشفوا ما يريدون دفنه من وقائع. أن تجعلوا من نضالنا هنا، أمرا مرئيا”. حاولت إسكاتها. لم تقبل. “يجب أن تسمع هذا الكلام. أنت لست مذنبا. هم المذنبون. من حكم لبنان ومن يحكمه اليوم. من يرفع سلاحه بوجهنا. من يحوّل القضاء إلى مضبطة اتهام. من دمر ما تبقى من إعلام. نحن خائفون. كونوا صوتنا”.

كدت أبكي. لكن كيف لي ذلك. أنا أجلس في منزل جميل. أراقب العصافير تأكل في حديقتي الصغيرة. أعمل. أدرس. أحلم. أشاهد ابني يكبر. أفكّر بذاك الشاب الذي صرخ مطالبا علبة حليب. أنا في وضع جيد، كيف لي أن أبكي.

صوت آخر يعلو في رأسي. وذاك الذي صار يأكل وجبة واحدة في اليوم، ماذا فعلت له؟ وماذا فعلت لتلك العائلة التي خسرت كل أحلامها ومدخراتها.. وخسرت القدرة على شراء الحليب والحفاضات لمولودها الجديد؟ وماذا فعلت للصبية التي كانت تحضر ملفها لإكمال دراستها العليا في جامعة في أوروبا، وإذ بكل ما تملك هي وعائلتها لم يعد كافيا لوضع الطعام على الطاولة. ماذا فعلت لبرنار، عدى أنك تتذكر تعليقاته كلما اشتريت أو أكلت النوتيلا؟

صوت آخر يعلو في رأسي. وذاك الذي صار يأكل وجبة واحدة في اليوم، ماذا فعلت له؟ وماذا فعلت لتلك العائلة التي خسرت كل أحلامها ومدخراتها.. وخسرت القدرة على شراء الحليب والحفاضات لمولودها الجديد؟

أحاول إسكات هذا الصوت. لا أستطيع. الصوت عالٍ. يجب أن أنام. هناك ورقة بحثية للجامعة يجب أن أبدأ بكتابتها غدا، فموعد استحقاقها بات قريبا. من سخرية القدر أن الورقة حول العقوبات الأميركية على حزب الله. هذه العقوبات، لمن لا يتذكر، بدأت في مطلع هذه العشرية لاستهداف أعمال الحزب في المثلث الحدودي في أميركا اللاتينية.. ثم في غرب أفريقيا. ليس مهما، سأكتب الورقة. سأمارس حياتي بشكل عادي. لكن الصوت لا يسكت. يسأل: ماذا فعلت؟

ربما لم أفعل الكثير. ربما هزمت مع هزيمة الكثيرين مثلي بسبب أخطائنا. هذا صحيح. أخطأنا في سوريا وفي لبنان. لكننا أفراد غير منظمين. هذا خطأنا الأكبر. ظننا في لحظة أن الحلم والحق كافيين. صرخنا في مصر: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”. الشعار لم يكن كافيا. رصاص العسكر أقوى. لعنة الإسلام السياسي أقصى.

ربما لم أفعل الكثير. لكنني لم أسكت، ولن أسكت. واليوم أضيف: لن أسامح. لن أسامح كل واحد فيكم. أنتم القتلة. أنتم من سرقنا. من أذلنا. من اجتاح حلمنا ولوثه. لن أسامح وكثيرون مثلي. لن نسامح. سننتقم منكم يوما. نعرفكم واحدا واحدا.. ونعرف من هو مرشدكم. أما نحن فلا يمكنكم أن تقتلونا جميعا. فنحن صرنا لعنتكم التي لا تغيب عنها الشمس. أتذكرون تلك الإمبراطورية التي قيل إن الشمس لا تغيب عنها. الإمبراطورية انتهت، والشعوب لم تنته. ونحن صرنا شعوبا. من أقصى الأرض إلى أقصاها. لا تغيب الشمس عنا.. ولا عن رغبتنا بالانتقام لناسنا الذي قتلوا ونُهبوا في لبنان.. لأبنائنا الذين لا يتحدثون العربية.. لأحلامنا التي قُتلت. الشمس لن تغيب عن رغبتنا في بناء وطن. سنحرر وطننا منكم. هذا وعدنا لكم. سنحاسبكم.

المرشد لا يمزح

المرشد لا يمزح. سكوته ليس علامة ضعف. لكن “ولدنة” بعض الرعايا أحيانا، تدفعه “لتربيتهم” كل حين. الرعايا مغلوب على أمرهم. كل حين، يتوهم أحدهم أنه سمع صوت باب يفتح، وأن الخروج الى الشمس بات قريبا. يلحقه البقية. لكن المرشد ذكي. في كل مرة يختبر ولاء الرعايا، واذا اضطر يرفع سوطه. ألم يسمع أنصاره يدعونه لجلد الرعايا! قد يكون الجلد قاسيا أحيانا؛ اسألوا هاشم أو سمير.

المرشد لا يمزح. أراه غاضبا. كيف تجرأ فلان وفكّر؟ كيف تجرأ آخر على النقاش؟ على الاعتراض؟ هذه مصطلحات تزعج المرشد. معه حق؛ تعود على عبارات الطاعة والولاء. “سمعا وطاعة يا سيدي”، إنها العبارة الأقرب على قلبه. ألا تسمعونه يرددها كل مرة؟ يعلن الولاء لسيد مغيّب لينال ولاء الأحياء.

المرشد لا يمزح. هناك من أغضبه، وعليه أن يدفع الثمن. سيدفع ثمنا غاليا. إذا كان لديك شك يا صديقي اسأل الأيام الماضية. اسأل مضايا عن غضب المرشد. هناك من أغضب المرشد في لحظة حرجة. لا أحد يقترب من تمساح يخزن طعامه في النهر؛ تخيل لو أن هذا التمساح يدرك أنه سينتظر طويلا قبل اصطياد فريسة أخرى.
المرشد لا يمزح، فكيف إذا أغضبه أحدهم؟ ومن هو هذا الشخص؟ هو لا شيء. هو مهزوم آخر يرفض الاعتراف بهزيمته. أشبه بلاعب خط وسط، كسر ضلعه وقرر أن يستمر بقيادة وسط فريقه. كرة القدم تحتاج لكثير من الأمور، بينها قدرة عالية على التحمّل والتنفس. صاحب الضلع المكسور يؤذي نفسه وزملاءه. تخيل لو أن صاحب الضلع هو من أغضب المرشد.

المرشد لا يمزح. كلامكم عن دراهم ستفقد قيمتها وريالات ستتحول الى نفايات ورقية لا يعنيه. المرشد أعلى من الماديات. لا يهتم بالتفاصيل. سلامة الأمة أهم بكثير من بسمة طفل. لا تصدقني؟ أعرف ذلك، تذكر مضايا يا صديقي. إن خانتك الذاكرة فتذكر اليرموك. تجاوز الخوف وانظر شرقا؛ ستجد صورة لمستقبلك. أنت لا تصدقني. أعرف ذك. صدق المرشد يا عزيزي. ألم يقل مرة أنه تابع لجمهورية المرشدين؟ ألم يقل إنه عملته المفضلة ريال؟ ألم يقل إن حبه وعشقه يذهبان عميقا في الشرق؟ صدقه يا عزيزي.

المرشد لا يمزح. والمهرج مستمر بأدائه. المرشد يكره الضحك. والمهرج يلقي نكاته. المرشد غاضب، والمهرج يقفز على المسرح.

لا تتعب نفسك أخي؛ لن يضحك المرشد!

لا تحزن. أنا مهرج صامت. أصدقائي كلهم مهرجون. لا تحزن عزيزي. لست وحيدا. فلنضحك سويا ونشرب كأس المهرجين.. ولننتظر! لا بد أن يحمل هذا النهر أو ذاك بعض الأخبار الطيبة.

الهروب

قبل سبعة أشهر انتقلت إلى الجانب الآخر من المعمورة. لم يكن قرار الانتقال سهلا، لكنه لم يحتج لوقت طويل. الرغبة في مغادرة لبنان كانت حاضرة في ذهني كأمر واجب منذ أكثر من سنتين. تلقي عرض العمل عبر الهاتف، ثم في البريد الإلكتروني جعل من الرغبة أمرا واقعا. لكنه ليس قرارا فرديا. سألت رلى رأيها، وهو رأي حاسم. قدمت كل الحجج التي يمكن ان تقنعها بخوض المغامرة، مع التمني الضمني بأن ترفض. الهجرة، وليس الاغتراب في حالتنا، أمر صعب. التغيير سهل نظريا، أما في الواقع، فهو صعب. وافقت رلى، وقدمت كل الدعم، وتخلت عن عمل تتقنه وتحبه. تخلت عن محيطها الآمن. كان عليّ الانطلاق إذا، وعدم التطلّع إلى الوراء. وهكذا كان.

منذ ستة أشهر، وأنا أقاوم فكرة الكتابة. أخشى من مصارحة نفسي، فكيف أصارح العموم. مشتاق لكثير من الأفراد. أشتاق لجلسات السمر والنميمة والنقاش الحاد مع نادر وإرنست وحسين. أشتاق للمناكفات مع والدي. لحضن أمي. أشتاق لبنات أختي، ولأخواتي. أشتاق للأصحاب. لجلسات البلاي ستايشن. للخروف الذي لم يذبح. لمحاولات خلق عمل محترم. للكؤوس التي لم تشرب. لحضور مباراة النجمة. لا يمكن أن أعدد كل ما أشتاق إليه أو من أشتاق إليه. الشوق يأكلني. لكن لا مجال للالتفات إلى الخلف.

الهزيمة قاسية. أقسى ما فيها، أن تكون فردا مهزوما. لا فكرة تحضنك، ولا جماعة تنتمي إليها

في الماضي القريب، كنت شابا مهزوما. شابا في مطلع الثلاثينات، تقزمت أحلامه لحدود تافهة. صحافي انتهت مهنته في لبنان؛ على الأقل كما كان يطمح لممارساتها. كائن سياسي هزم بالكامل مع هزيمة الربيع العربي. ربيع اجتاحته رياح المستبدين والإسلاميين الخماسينية. اكتملت فصول الهزيمة مع المقتلة السورية. رأيت بعيني الموت والهزيمة. تكاتفت طائرات البعث ولحى الإسلاميين، وهزمتنا. حلم الحرية صار بعيدا. حلم الديمقراطية دفن. الهزيمة قاسية. أقسى ما فيها، أن تكون فردا مهزوما. لا فكرة تحضنك، ولا جماعة تنتمي إليها. فرد مع مجموعة أفراد. تذكرت هؤلاء الأفراد عندما رأيتهم في حديقة سمير قصير. الاسم هنا يغش. هي ليست حديقة. هي بالحد الأقصى مصطبة، تجمع منذ انطلاقة الثورة السورية، مجموعة أفراد تذكر نفسها كل حين بأنها لا تشبه الديكتاتور. أفراد، يواجهون أيديولوجيات شمولية لا ترحم. نحن مهزومون أيها الأصدقاء.

رفضهم الاعتراف بالهزيمة، يؤكد جبننا، نحن الذين اعترفنا وهربنا. أحسدهم على هذا الإصرار، وأشتاق لهذه اللحظات التي يرتفع فيها منسوب الأدرنالين في الجسم، ويقاومه العقل لإدراكه أنه ناتج عن إغراء كاذب. إغراء خادع.

عودة إلى الهجرة. هربت من هزيمتي، وقررت النجاة مع ابني وزوجتي، علّه يحصل على حياة أفضل. ربما أعود إلى هزيمتي الأولى، لو هزمت هنا، وربما أعيش حتى أنفاسي الأخيرة في الوطن الجديد.

رفضهم الاعتراف بالهزيمة، يؤكد جبننا، نحن الذين اعترفنا وهربنا. أحسدهم على هذا الإصرار

لا يمر يوم هنا إلا وتتسارع المقارنات في رأسي. كل يوم، يزداد حقدي على من أوصل بلادي إلى الدمار. كل يوم، أشعر بانتماء أكبر لهذه البلاد التي نشأت على دعوات كرهها ومحاربتها. أكتشف كم كانت معرفتنا بها عبارة عن أحكام مسبقة تافهة. طبعا لا أقول إنها بلاد كاملة. يوجد ظلم هنا. يوجد قهر. لكن هناك حلم وحب. تحيات الصباح التي تتلاقاها من غرباء، تبدو كصفعات تؤنبك على كل مرة فكرت فيها بضرورة هزيمة هذا الشعب. جارك الذي يعرض مساعدتك في تجهيز شفتك للسكن، بعد دقائق على لقائه، وينفذ عرضه، يجعلك تعتذر عن تلك اللحظات. تخجل من الجدة التي تلتقيها وحفيدها في الحديقة العامة، وتسألك عن أحوالك، ثم تبادر لإغراقك بكم من المعلومات المفيدة لك كمهاجر.

الحب هنا كثير، كذلك القسوة. لكنني أشتاق لأفراد لا يعوضهم أحد. اكتسبت صداقات هنا. أسهر أصحاب، أشعر بأنني أشاركهم حياتهم منذ زمن. لكنني أشتاق. لن يدفعني الشوق للنظر إلى الخلف. لكن قلبي معكم. قلبي مع من أحب. مع المدافعين عن الحرية في بلادي. مهزومون هم، لكنهم لا يخضعون. أما عقلي، فهو على ضفاف نهر يحيط بالعاصمة التي تحكم العالم. لا بد أن تمر جثث من قتل أحلامنا يوما في هذا النهر أو ذاك. حتى ذلك الحين، أحبكم وأحسدكم على القدرة على الاستمرار.

فقير في ضيافة فقير

للنزوح أبجدياته. هنا في البقاع تُدرّس هذه الأبجديّات. النزوح ليس وليد قمع النظام للثورة فقط. اللبنانيّون والسوريّون نازحون. الطرفان تخلّت دولتهما عنهما، وتعاطت حكومتا البلدين معهما كالزائدة الدوديّة، يتم التخلّص منها في حال التهبت.

تحار في الخيم، أيّها للنازحين السوريين وأيّها للنازحين اللبنانيين. تحار في المدارس، أي طالب هو النازح. تحار عند سماع تجارب العاملين الاجتماعيين أي شعب هو النازح. نزوح السوريين أكثر سطوعاً من نزوح اللبنانيين.

تحت الشمس، جلست العاملة الاجتماعيّة تروي ما تسمعه وتراه. كانت كمن يتحدث لطبيبه النفسي، أو يعترف للكاهن، للتخلص من عبء ما تجمّع في الذاكرة. تروي قصص أطفال باتت لعبتهم المفضّلة، لعنة حاجز الجيش السوري. يُقسّمون أنفسهم مجموعات. جزء عسكري نظامي والباقون ثوار سلميون. يتمسكون بسلميّة ثورتهم من دون أن يعرفوا السبب. يتعرّض الثوار للضرب والإهانة، والبسمات تعلو وجوههم. وسيلة الضرب المفضلة، خشبة دّقت فيها المسامير.

لا يُكتب كل ما ترويه هذه الناشطة. هي تعمل منذ نحو سنة ونصف السنة في البقاع كعاملة اجتماعيّة. شهدت ارتفاع عدد النازحين منذ أن كانت الأرقام بالآلاف فقط. تقييمها السريع هو “أننا لم نكن نعرف المجتمع السوري”. كما “أننا لم نكن نعرف تماماً الفروق الاجتماعيّة في المجتمع اللبناني”. أمّا لجهة عمل الإغاثة، فهناك نقص كبير في التقديمات، يترافق مع عنصريّة لبنانية. أكثر القصص إيلاماً، قصص نساء فقدن رجالهن في الثورة السورية. هن يُدركن ذلك، لكنهن أكيدات أن الرجال ما زالوا أحياء. يختلقن اتصالات من هؤلاء الرجال. ليس الأمر إنكاراً للموت، بل خوفاً من نتائجه. تصبح النسوة لقمة سائغة للتحرش الجنسي، فيما لو عُرف أنهن بتن أرامل.

قصص التحرش كثيرة. تروي إحدى النساء، أنها تُقدّم جسدها لصاحب أحد الكاراجات ولمن يريد من أصدقائه في مقابل السماح لأمها العجوز المبيت من دون مقابل. لا ترى هذه المرأة أن الأمر غير عادي. هي تشكر الرجل كثيراً. تتشابه القصص في القرى البقاعيّة. الدعارة باتت أمراً عادياً، مقابل مبالغ مالية أقلّ من زهيدة. خمسة آلاف ليرة لبنانيّة أو عشرة آلاف في أحسن الحالات. الحاجة إلى الطعام قاتلة.

معاناة النازحات السوريات لا تُختصر بانتهاك أجسادهن من اللبنانيين. الرجال السوريون غير مقصرين. لا يغيب الجنس عن المشهد بسبب تكدس العائلات في خيمة أو غرفة صغيرة، أو بسبب تأثيرات الحرب النفسيّة على الرجال. لكن غياب الجنس، يتحوّل عنفاً جسدياً ضد النساء. هنّ العنصر الأضعف في المشهد. لكنهن، يُحوّلن هذا العنف إلى عنف ضد الأطفال أيضاً. هكذا، تُخلق دائرة عنف، بدأها نظام البعث ضد شعبه، وانتهت في الوحدات العائليّة الصغيرة. جيل جديد، يكبر على لغة وحيدة وهي العنف.

البحث عن النازحين في البقاع ليس صعباً. في كل قرية نازحون. استأجروا بيوتاً، أو سكنوا الخيام. لكن الخوف يطغى على أحاديثهم. خوف من بطش النظام بأهاليهم الذين ما زالوا موجودين في سوريا. خوف آخر من الواقع اللبناني. يشعرون بدونية كبيرة مقابل اللبنانيين. في المدارس مثلاً، نشهد أوراقاً معلقة تمنع السوريين من دخول حمامات أو قاعات معينة.

لا يُريد النازحون البقاء في لبنان. شهدوا فيه ما يكفيهم. في مركز تجميع النازحين في بلدة المرج، يمتنع الرجال عن الكلام، وتهرب النساء من الكاميرات. يقول الرجال إن ما جرى لهم يكفي. لا يُريدون الكلام أكثر. يستذكرون قراهم وأعمالهم التي تدمرت. تدمع الأعين في لحظات كثيرة، خصوصاً عند السؤال عن العائلة الممتدة. كلهم خسر أفراداً من عائلاتهم. العبارة الشهيرة للنساء هي: بيكفينا ذلّ ما بدنا نتصور.

من لجأ إلى المرج من النازحين، كان حظه أفضل من غيره، بسبب وجود مستويات مقبولة من التنظيم تتولاها البلدية بالتنسيق مع الجهات المانحة. في تعلبايا، مبادرة أخرى ثانية، وهي مدرسة بدوام بعد الظهر، وتعتمد المنهاج السوري ويعلم فيها أساتذة سوريون. يشير رئيس بلديتها إلى أن أبرز مشكلة تواجهه هي أن الطلاب لا يستطيعون الدراسة في منازلهم، “يسكن عشرة أو أكثر في غرفة”، ويُضيف أن المشكلة الثانية هي العنف المتزايد في تصرفات الطلاب.

في تلك المدرسة، كان بعض المراهقين يلعبون كرة القدم، بعد ظهر يوم أحد مشمس. عقولهم في سوريا. يشعرون بأنهم محظيون أكثر من رفاقهم، كونهم بعيدين عن الموت. لا يستوعب هؤلاء فكرة أنهم على مقاعد الدراسة فيما أقرانهم يحملون البنادق للدفاع “عن شرف شعبنا”، يقول أحدهم.

تلك المدرسة، أو مخيم بلدة المرج، هي مبادرة فردية في المجتمع البقاعي. تأتي خارج السياق الرسمي. عمل وكالات الأمم المتحدة مقبول، لكنه بطيء، إذ إن تسجيل النازحين للاستفادة من التقديمات يحتاج لأسابيع. تحاول الجمعيات تغطية هذا النقص. لكنها محاولات غير قادرة على سد جميع الثغرات. الإيجارات المرتفعة عقبة أساسيّة، والحلول حولها غير متوافرة حالياً.

في البقاع اللبنانيون والسوريون نازحون. بدأ النازحون ينافسون بعضهم على لقمة العيش. مجتمع فقير يستضيف شعبا أفقر خرج من بيته هرباً من الموت. المساعدة باتت ضرورية للجميع. لكن المستقبل في سوريا ربما يكون أفضل بعد ثورة أعادت المعنى لإرادة شعب، أما لبنانياً وبانتظار هكذا ثورة، فإن أهل البلد تحولوا إلى مشردين نتيجة سياسات اقتصادية فاشلة وعقلية حكم لا تقيم اعتباراً للبقاع وأهله.

الأكيد أن هؤلاء الذين يتصدرون الشاشات والصحف ويتحدثون بقرف وفوقية وعنصرية تجاه النازحين متهمين إياهم بأنهم يعيشون بنعيم، لم يزوروا البقاع أو الشمال بعد. لم يمضوا نهاراً برفقة هذا الشعب المشرد. التجوال بين النازحين بقاعاً، يؤدي إلى اكتئاب نتيجة شعور العجز الذي يتملك الزائر، اللهم إلا إذا كان مسؤولا قادرا على المساعدة.

* نشر في جريدة المدن الإلكترونية

20130402-104712.jpg

بريد طرابلس امتلأ

اشتعلت في طرابلس. كانت الاشتباكات توقفت بعد ظهر يوم الجمعة، لتعود الأوضاع الى الفلتان ليلاً، حيث كل الحدث اللبناني شمالي، من استقالة الرئيس نجيب ميقاتي إلى عدم التمديد للواء اشرف ريفي إلى حرب جبل محسن باب التبانة.

لهجة الشارع زادت في مذهبيتها. أهل طرابلس، الهادئون منهم قبل المتشددين، يسألون عن سبب عدم التمديد لريفي. ويشير هؤلاء إلى الظلم الذي يلحق السنة، عبر استبعاد ممثلهم الأول، أي الرئيس سعد الحريري عن السلطة، ثم ضرب نجيب ميقاتي، واستهداف مشايخ دار الفتوى وأخيراً عدم التمديد لريفي بما يشكله من ضمانة في قوى الامن، وهو ما يأتي بعد اغتيال اللواء وسام الحسن.

والأسوأ، بالنسبة لأهل طرابلس، كان نشر معلومات من قبل صحافيين ووسائل إعلامٍ مقربين من فريق الثامن من آذار، عن وجود تجمعات مسلحة تحت منزل ريفي تستعد لبدء معارك كبيرة في حال عدم التمديد لريفي. هذه المعطيات لم تكن صحيحة. وكان من السهل لزوار منزل ريفي أو المارين بجانبه ملاحظة عدم وجود شيء من هذا القبيل. شعر أبناء طرابلس بأن هناك من يُحضر لافتعال إشكالات أمنية ولصقها بهم. حادثة عرسال وما رافقها لا تزال حية في وجدانهم.

لكن استقالة الرئيس نجيب ميقاتي أعادت صوت الرصاص إلى طرابلس في جولة لا يعرف أحد إلى أي مدى ستصل، لكن المعطيات المتوافرة تشير إلى أنها قد تكون من الجولات الأعنف. قبل هذه الجولة، سقط أربعة قتلى وأكثر من ثلاثين جريحاً من التبانة، وقتيل وعدد من الجرحى من جبل محسن، كانوا ضحية الاشتباكات التي لم يُعلن بعد سبب افتعالها. الأكيد في طرابلس أن الحقن المذهبي وصل إلى حدوده القصوى. العلاقة بين العلويين والسنة في اقصى توترها. تكررت على مدى الأيام الماضية حوادث الاعتداء من هنا ومن هناك على مدنيين لا علاقة لهم بما يجري. لكن العامل الأكثر تأثيراً كان كلام رفعت عيد، أمين عام الحزب الديمقراطي اللبناني والشيخ أسد عاصي، اللذين استعملا لهجة حادة جداً تجاه السنة. اتهامات عاصي كانت مفاجئة، خصوصاً تلك التي قال فيها أن نساء جبل محسن يتعرضن للاغتصاب. واللافت أيضاً هو الغطاء الطائفي الذي أعطاه عاصي للحزب الديمقراطي اللبناني. وجاء إطلاق سراح حسان سرور وما رافقها من إطلاق نار في الهواء، لتفتح هذه الجولة من الاشتباكات.

المعطيات الميدانيّة، تُشير إلى أمور أساسيّة:
أولاً: تجاوز الحزب الديمقراطي اللبناني الحدود التي كانت موجودة سابقاً. هذا التجاوز كان في المدى التي وصلته النيران وليس تقدماً ميدانياً، إذ بعد دقائق من بداية الاشتباكات، طالت النيران منطقة قلعة طرابلس للمرّة الأولى، منذ أن بدأت جولات الاشتباكات هذه في العام 2008. كما أن كثافة النيران من جبل محسن لم تكن على مستوى الاشتباك الذي بقي محدوداً، بل إنها كانت تشير إلى وجود معركة كبيرة.

ثانياً: للمرة الأولى استطاعت القوى السلفيّة ضبط شارعها، ومنع مجموعاتها من المشاركة في جولة الاشتباكات، تحت عنوان أن هذه المعارك تضرّ المدينة ولا جدوى لها. وسبق للقوى السلفيّة أن امتنعت عن المشاركة في جولة المعارك السابقة التي تلت اغتيال اللواء وسام الحسن، لكن قرارها هذا انحسر في المعركة مع جبل محسن، وشاركت حينها هذه القوى في الهجوم على مكاتب حركة التوحيد الاسلاميّة.
ثالثاً: المجموعات الاساسيّة في التبانة والقبة والمنكوبين لم تشارك في المعركة، بل تركزت في منطقة الريفا، وكان لافتاً التزام هذه القوى بعدم المشاركة في المعارك.

كلّ هذه المعطيات، تشير بحسب شخصيّات طرابلسيّة إلى وجود رابط بين رغبة النظام السوري في نقل المعركة إلى خارج حدوده، مع هذا التحمّس الزائد في جبل محسن. وتشير هذه الشخصيّات إلى أن قرار النظام السوري تزامن مع تشكيل الحكومة الانتقاليّة من قبل الائتلاف السوري المعارض.

جولة ليل الخميس ــ الجمعة كانت ترجمة لحسابات الحزب الديمقراطي اللبناني والنظام السوري، ويبدو أن جولة الجمعة ــ السبت، ستكون ترجمة لإحباط طائفة شعرت بأنها تُقصى عن إدارة الدولة.

ضخ الرسائل من الجانبين لم ينقطع، مع أن صندوق بريد طرابلس امتلأ، وطفح بالفيحاء الكيل.

* نشرت في جريدة المدن الإلكترونية

طرابلس تغرق بالشائعات: التفجير لتأجيل الانتخابات

طرابلس ضحيّة الشائعات مرة جديدة. لا تكاد هذه المدينة تخرج من أزمة إلا ويتم إدخالها بأخرى. أهل المدينة خائفون. لا يعرفون ما الذي ينتظرهم. لم يكن ينقصهم سوى بضع رصاصات تطال سيارة شقيق رفعت عيد. لا فرق بين أن تكون هذه الرصاصات ابتهاجاً بظهور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على التلفزيون (كأنه كان مخطوفاً وأطلق سراحه) أو أن تكون رصاصات موجهة. لكلا الحالتين الأثر عينه: المزيد من التوتير.

لا يقف الأمر هنا. أبناء التبانة ومن يدور في فلكهم السياسي يقولون إن أنصار النائب السابق رفعت عيد، يعملون على إعادة رفع المتاريس. يتحدثون عن شاحنات تدخل محمّلة بالرمل المخصص لتعبئة أكياس المتاريس. يتحدثون أيضاً عن سلاح جديد دخل إلى جبل محسن. عن راجمات وصواريخ محمولة على الكتف.

في المقابل، لأهل جبل محسن وحلفائهم روايتهم الخاصة. يتحدثون أيضاً عن رفع المتاريس مجدداً، وعن سلاح جديد دخل المعركة. يقولون إن “جبهة النصرة” سيطرت على المدينة، وإن “الجيش الحرّ” بات موجوداً بالمئات، وأن الطرفين يُحضّران لحسم المعركة في طرابلس. يخلطون بين جبهة النصرة والجيش الحرّ، في الوقت الذي يتصادم فيه هذان الطرفان في شمال سوريا في مناطق عدّة. ويقول هؤلاء إن جبهة النصرة تسعى لإقامة الإمارة الإسلاميّة (رغم أن المتهم بأنه أمير هذه الإمارة، أي حسام الصباغ، أزال بنفسه لافتات بإسم الإمارة الاسلاميّة رفعت في طرابلس قبل مدة).

يقول عارفون بشأن المدينة إن أمر المتاريس ليس جديداً، إذ تُرفع بين الحين والآخر، ليُزيلها الجيش لاحقاً. السؤال الأساسي لماذا يسمح الجيش برفعها في الأصل؟ لكنهم لا يرون في هذه المتاريس دلالة جديّة على حصول اشتباك آخر في محور جبل محسن ــ باب التبانة (والمناطق الأخرى كالبقار والمنكوبين وأبي سمرا). أمّا موضوع السلاح، فهو بات كالنكتة السمجة. الجميع يملك السلاح اللازم لحرب الشوارع هذه. صواريخ غراد لا تُستعمل في هذه الحرب.

الكلام عن الحسم العسكري وعن جبهة النصرة مثير للضحك. إنه كحال الراعي الذي قال مراراً إن الذئب يأكل خرافه. ويوم أُكلت الخراف لم يُصدقه أحد. كلام الحسم هذا عمره من عمر الثورة السورية.

يُشير عدد من المتابعين بدقة لوضع طرابلس، أن القوى الأساسيّة القادرة على القيام بمعركة جديّة لا تُريد هذه المعركة. ترى فيها خسائر للجميع في طرابلس. مناصرو الثورة السورية يُدركون أن أي خلل أمني كبير يُغيّر في المعادلة الحاليّة من شأنه قطع الطريق على مساعدة الثورة السورية في مجالي الإغاثة والطبابة. إذ لم يعد سراً على الجميع أن هناك مستشفيات في طرابلس تستقبل الجرحى السوريين، مدنيين وثواراً.

الثابت الوحيد في طرابلس، هو تراجع كثافة رمي القنابل اليدوية والعبوات الصغيرة الحجم والبدائية في أحياء المدينة بعد توقيف من كانوا يرمونها. غير ذلك، لا جديد سوى الشائعات.

الواقع يُشير إلى أن لا إمكانية لتغيير المعادلة الأمنية الموجودة. ربما يحصل اشتباك في هذا المحور المشتعل من العام 2007. هذا أمر تعودت عليه المدينة. تأجيل الانتخابات النيابيّة يحتاج إلى مبررات كهذه. لكن العناصر الأساسيّة في الشارع الإسلامي لا تُريد المعركة. السلفيّون نموذجاً، وهم الأكثر قدرة على خوض معركة كبيرة. باقي المجموعات المرتبطة بمختلف مكونات المدينة السياسيّة كنجيب ميقاتي وتيار المستقبل وآل كرامي، وغيرها المرتبطة بـ”حزب الله”، قادرة على إشعال اشتباك، وليس خوض معركة كبيرة، يقول أحد المعنيين بأمن المدينة، ويُضيف أمني آخر: الاشتباك يبدأ بعد توزيع الذخيرة. لا يحتاج إلى أكثر من ذخيرة، وهذه توزّع بشكل يومي خلال الاشتباكات لتبقى المعركة مضبوطة سياسياً.

ربما يحصل هذا الاشتباك الذي يتحدث عنه الجميع في طرابلس، من دون تحديد موعد دقيق له. إنها جزء من سياسة البلد. الأسباب التي أدت إلى الاشتباكات السابقة لا تزال قائمة. لم يقم أحد بتغيير الواقع إلى نحو إيجابي.

في هذا الوقت، يلفت بعض الطرابلسيين النظر إلى أن الخوف الأساسي هو من عودة ظاهرة داعي الإسلام الشهال. المال عاد إلى يدي الرجل. نموذج أحمد الأسير يُثيره. سيزور الشهال بيروت في الساعات المقبلة، ليُدافع عن المدينة. الطريق الجديدة ستكون محطته. يتهم كثيرون في طرابلس الشهال ومن يُشابهه كعمر بكري وبلال دقماق، بأنهم يرمون الشباب في التهلكة دوماً، ويخرجون هم “كالشعرة من العجين”. عدا ذلك، ستبقى طرابلس كما هي، مدينة فقيرة ومهمّشة، تُستعمل كساحة اشتباك وتبادل رسائل.

سيناريوهات كثيرة يتداولها سياسيون وغيرهم، عن تفجير أمني أو أحداث أمنية ترمي الانتخابات النيابية بعيداً، ليبقى السؤال: هل تدفع طرابلس فاتورة تأجيل الانتخابات النيابية من جلد أبنائها؟

* نشر في جريدة المدن الإلكترونية.

احذروا حركة أمل

Image
من تظاهرة هيئة التنسيق النقابية الأربعاء الماضي

 

رائحة سيئة تفوح في الأفق. حراك الموظفين والأساتذة لم يعد يُرضي أحداً. إنه يُعاكس المنطق الذي يسير فيه البلد. منطق مشروع اللقاء الأرثوذكسي وأحمد الأسير. منطق المذاهب والمناطق. خرجت هيئة التنسيق النقابيّة من كلّ هذا البيئة العفنة، لتقود تظاهرة في قلب العاصمة. تظاهرة تكاتف فيها أبناء عرسال والهرمل، أبناء عكار والجنوب وأبناء الجبل. ه

أعادت هذه التظاهرة وهذا الإضراب تلوين المشهد اللبناني بعد كان مائلاً صوب الأسود البشع. واجه نجيب ميقاتي هذا الحراك كونه ممثل المصارف والتجار. لم يرضَ بأي تنازل لأبناء الطبقة الوسطى الذين يسعون للحفاظ على ما تبقى من هذه الطبقة. هذا هو دور نجيب ميقاتي. غسان غصن، حاول إصداء النصح للمضربين، تماماً كما رُسم له الدور، منذ أن وضع كشبحٍ في قيادة الاتحاد العمّالي العام. ه

حزب الله ليس موافقاً قلباً وقالباً. أمينه العام يؤيّد المطالب، لكن جسمه ليس متفاعل إيجاباً. يكفي متابعة قناة المنار قبل التظاهرة الكبيرة الأربعاء الماضي. المشهد ليس بعيداً عن مشهد تصويت وزيري الحزب عكس ما قاله حسن نصرالله في ملف الأجور، يوم كان شربل نحاس مدافعاً أولاً. ه

تيّار المستقبل لا يرى المعركة معركته. لا يخوضها دفاعاً عن الاساتذة والموظفين. عقله، أي فؤاد السنيورة، يرفض هذه المطالب في الأصل. لا يُمكن له أن يتخيّل أن هناك موظفين وأساتذة ينالون حقوقاً. أيُعقل؟! ه

المدارس الكاثوليكيّة، وبكركي لم تكن بعيدة عن هذا الجو، بقيادتها معركة المدارس الخاصة بوجه نقابة المعلمين في المدارس الخاصة في محاولة لضرب الجسم النقابي. ه

مهلاً. أين حركة أمل؟ يوم الخميس كان من المفترض أن يخوض سائقو السيارات العموميّة إضراباً. تراجع بسام طليس وعبد الأمير نجدة (ممثل حركة أمل في الحزب الشيوعي كما يقول عدد من الشيوعيين على سبيل السخرية). خذلوا السائقين الذين آمنوا بصوابية قضيتهم. ه

لم يقف الأمر عند هذا الحد. اليوم تتولّى حركة أمل توجيه ضربةً قاسية للأساتذة والموظفين. تُحاول الحركة، التي كان لها فضلٌ علينا في ضرب الاتحاد العمّالي العام في تسعينات القرن الماضي بالشراكة مع الحزب القومي السوري الاجتماعي، بإشراف المندوب السامي غازي كنعان وتمويل المغدور رفيق الحريري، باستكمال مهمّة ضرب النقابات. هذه خدمة هامّة تُقدّم للمحرومين. ه

مساء اليوم، بدأ مسؤولو حركة أمل بالدعوة لعدم المشاركة في تظاهرة الغد المتجهة للقصر الجمهوري. كما يدعو هؤلاء الطلاب في بعض القرى الجنوبية إلى الالتحاق بالمدارس الابتدائيّة، معتمدين على بعض الأساتذة المتخاذلين وبعض المتعاقدين. هذه الدعوات تجري في قرى مثل: المجادل، سلعا، عين بعال وغيرها. وهي خطوة تمهّد لكسر الإضراب شيئاً فشيئ. ه

تستخدم حركة أمل بعض أساتذة الابتدائي حصان طروادة لضرب الحركة النقابية، ويدفع هؤلاء الأساتذة فاتورة من أدخلهم إلى وزارة التربية من غير وجه حق، ومن يحميهم من سوء أدائهم التعليمي. كان محقاً نجيب ميقاتي يوم قال بضرورة محاربة الفساد في القطاع العام، هل يجرؤ على أزلام نبيه بري. ه

 

سلفيون: أحمد الأسير ليس منّا

عرف الشيخ أحمد الأسير كيف يكون شعبوياً منذ أن كان يجمع التبرعات في شارع الحمراء. صعد نجمه شيئاً فشيئاً. أحاط نفسه بشبكة أمان صيداويّة، تتألف من شخصيات تنتمي إلى علائلات المدينة الكبيرة (البابا، البزري وغيرها) وبعض الشخصيات الفنية والإعلامية كفضل شاكر وغيره، إلى جانب غطاء من آل الحريري، برغبتهم أو عدم رغبتهم. إذ يكفي الإشارة إلى أن مرافقي النائب بهية الحريري، يصلّون نهار الجمعة خلف الأسير، “قصر مجدليون” يكون خالياً ظهر كل جمعة.

غريب هو هذا الجمع. حتى أن من تبنى الأسير إعلامياً في البداية هو ألد خصومه المفترضين. لم يعد للأمر أهميّة كبرى الآن. صعد نجمه. وصار الشيخ الصيداوي، مثار جدل واهتمام. استخدم خطاباً مذهبياً استنفر فيه عصبيات شارع ليؤيّده وآخر ليُعارضه.

لكن هناك شيئاً ناقصاً. لم يستطع الأسير أن يكون جزءاً من المنظومة السلفيّة. لم ينضم إلى هيئة العلماء المسلمين، وهي الهيئة التي تُمثّل أغلبية السلفيين اللبنانيين. ناصر الثورة السورية، من دون أن يُكلّفه الأمر شيئاً. لم يستعمل ما يصله من أموال لإغاثة النازحين السوريين وما أكثرهم، وأحوجهم. لم يتورط في إرسال السلاح إلى سوريا. الموقف السلفي من الأسير كان حاداً. اعتبروه حالة غير إسلاميّة.

لاحت للأسير فرص الانضمام إلى الصف السلفي يوم زاره وفد من هيئة العلماء المسلمين وعرض عليه أن يأتي وفد آخر يضم أكثر من مئة شيخ إلى مقر اعتصامه السابق على الطريق الدولية التي تربط بيروت بالجنوب، ويُعلن الأسير فكّ الاعتصام تجاوباً مع هذا الوفد. رفض الأسير العرض. أراد أن يكون الوسيط، الطرف الإسلامي ــ الفلسطيني الأقوى في مخيم عين الحلوة، أي عصبة الأنصار. كان له ما أراد. ربما وجد الأسير في هذا الأمر فرصة لتكوين غطاءً فلسطينياً له. هو الذي يرغب في أن يكون مخيّم عين الحلوة عمقاً بشرياً وعسكرياً لحالته. لم ينجح بالكامل، رغم إصرار بعض وسائل الإعلام على ذلك.

مع تدعيم وضعه في طرابلس، والتخلص من عبء الاعتصام، اتجه أحمد الأسير شمالاً. زار المدينة، وأقام لقاءً في فندق كواليتي إن. لم يكن اللقاء كما أراده المنظمون. حجم المشاركة الطرابلسيّة ضعيف جداً. اتجه إلى عكّار، حيث كان التجاوب أفضل بقليل. لكن مناصريه في طرابلس، وهم قلّة، استفزوا السلفيين مراراً. رفعت لافتات تُحقر رجال الدين، وتعتبر أن الأسير هو الأعلم والأفضل.

حصلت حادثة عرسال. بعد يوم، ذهب وفد من هيئة العلماء الملسمين إلى تلك البلدة المنسية، وأعلن تضامنه مع أهاليها، من دون فتح معركة مع الجيش. وبدأ بعدها مسيرة تفاوض تكللت بالنجاح، مع رفع الحصار تقريباً عن البلدة وتسليم نحو ثلاثين من المطلوبين. لم يكن الأسير جزءاً من هذا العمل. أعلن الزحف لتحرير عرسال، وهو ما لم ينجح. ولو نجح الأمر، لكان الصدام بين العرساليين والجيش مخيفاً كما يقول أحد المشايخ السلفيين.

بعدها، أتى الانقاذ للشيخ الصيداوي. نجحت الاتصالات وانضم إلى لائحة الخطباء في اعتصام التضامن مع الموقوفين الاسلاميين في بيروت الأسبوع الماضي. اشترط المنظمون على الأسير حصر كلمته بملف الموقوفين. طالبوه بعدم التطرق إلى الثورة السورية ولا إلى الوضع الداخلي اللبناني. وافق الرجل. لكن، ما إن اعتلى المنبر، حتى اعتذر من المنظمين، وقال إن كلمته تُمثّله هو فقط، ليفتح النيران يميناً وشمالاً.

تحول الحدث من ملف الموقوفين إلى تصريحات أحمد الأسير. وظهر الشيخ سالم الرافعي (وهو الأكثر شعبية بين المشايخ السلفيين) كمهادن أمام خطاب الأسير. وللمرة الثانية يُقدم الرجل على وضع العصي في مساعي حلّ ملف الموقوفين. المرة السابقة، كانت خلال اعتصامه في صيدا، إذ سبقها إطلاق عدد قليل من الموقوفين تمهيداً لإطلاق سراح آخرين. الاعتصام أوقف هذا الأمر. اللافت أن حسام الصباغ وآخرين امتنعوا عن المشاركة في اللقاء التضامني.

في ظل هذا الواقع، قام الشيخ نبيل رحيم بانتقاد خطاب الأسير خلال اللقاء التضامني، في لقاء تلفزيوني. لم يتأخر الرد. فخلال درس ديني، وصف الأسير، رحيم برجل الدين المرتهن للدولة. أكمل بعض الشبان الطرابلسيين المرتبطين بالأسير المهمّة، بتوجيه كمّ من الاتهامات والشتائم لرحيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

اليوم، تسمع من رجال الدين السلفيين موقفاً أكثر سلبية تجاه الأسير. يعتبرونه شعبوياً، يُريد توريط الشباب بمعارك وهميّة. يقولون إنه ليس سلفياً، وإن جمهوره ليس من المتدينين، بل من حالة شعبية مستفزة مذهبياً لا أكثر. يرون فيه خطراً، وفتنة متنقلة. يسأل هؤلاء، من صنع أحمد الأسير؟ ومن سمح له بالتمدد والتوسع؟ ربما فضل شاكر يملك بعض الأجوبة.

* نشر في جريدة المدن الإلكترونية

السلفيون في أزمة: النجدة!

لا تخلو جلسة مع السلفيين هذه الأيام إلّا ويُعبّر فيها هؤلاء عن تخوّفهم مما يُحضَّر لهم. ترتسم أمامهم صورة غير ورديّة. يرون أنهم باتوا بلا حليف حقيقي. أقرب الناس لهم، افتراضياً، خذلوهم. ترتسم على وجه شيخ سلفي ذي حضور بارز في الساحة حالياً، تعابير يأس: “نُحاول تجاوز كلّ مطب يُفرض علينا، لكننا حينما يُشيّدون سداً في وجهنا، لن نذهب إلى الموت طائعين. سندافع عن أنفسنا حتى آخر رمق”.

لا يُريد السلفيّون الصدام مع أحد. هذا ما يُعلنونه على الأقل، وما ينعكس في بعض ممارساتهم على الأرض. يقول الشيخ السلفي نفسه: “يتهموننا بأننا نُريد تحويل المسيحيين إلى أهل ذمّة، نحن نقبل بأن نكون أهل ذمّة. أعطونا الحقوق التي ينالها غير المسلم في الدولة الاسلاميّة”. ويُضيف بأن الإسلاميين في لبنان مقتنعون بأن البلد لا يصلح لأن يكون دولة خلافة. برأيهم لا يملك المقومات، لذلك يُريدون العيش مع مكونات المجتمع انطلاقاً من مبدأ الحقوق والواجبات.

يطول النقاش مع السلفيين حول واقعهم الحالي. يُعطي أحدهم مثالاً لما يُحضّر لهم: “قال الشيخ عمر بكري في حديث صحافي عن أن طرابلس هي المدينة القادرة أن تكون مقراً لجبهة النصرة”. رفض السلفيون في ما بينهم هذا الكلام، ودارت معارك كلاميّة حول الأمر، لكن اللافت كان مسارعة وزير الداخليّة مروان شربل إلى تأكيد هذا الأمر والقول في حديث تلفزيوني إن هناك حالة خطرة يجب أن تُستأصل من المدينة”. يقصد شربل السلفيين بالحالة الخطرة والمتشددة. اللافت هنا، أن الجميع يُدرك أن بكري ليس صاحب تمثيل شعبي كبير، لكن يتم أخذ كلامه كمسلّمات.

يُضيف شيخ آخر مثالاً ثانياً: قامت الدنيا ولم تقعد بعد رفع لافتات موقعة بإسم الامارة الاسلاميّة في طرابلس. اتهم حسام الصباغ بالأمر. اتهام، يترافق مع سلسلة من الاتهامات التي تُكال للرجل، من أنه أمير تنظيم القاعدة في لبنان، أو أنه يتولّى إدخال المسلحين والسلاح إلى سوريا. لم يكن الصباغ هو من رفع اللافتات، لكنه كان من أزالها، من الشارع بعد ساعات على رفعها. معظم وسائل الاعلام لم ترَ ذلك، وأصرّت على اتهامه برفعها. ثم تأتي القنابل التي تُرمى بشكلٍ يومي في أنحاء طرابلس مع التركيز على منطقة أبي سمراء، من دون أن تستطيع القوى الأمنية معرفة الفاعل.

هكذا، يشعر السلفيّون بأن هناك اتفاقاً ضدهم. الإعلام يستهدفهم، كما يقولون. من النادر أن يجدوا وسيلة إعلام تسمع لهم، أو تنقل ما يقولونه ويفعلونه كما هو. يُضاف إلى هذا الواقع، أن بعض وسائل الإعلام تختار شخصيات سلفيّة متشددة، لكنها غير ممثلة، لتتحدّث بإسم السلفيين. بلال دقماق نموذج حي.

سياسياً، يشعر السلفيّون بأن تيّار المستقبل ورئيسه سعد الحريري لا يُمانعان باستخدامهم والتخلّي عنهم في أي لحظة. لمسوا من خطاب الحريري الأخير في البيال في ذكرى 14 شباط، إشارات واضحة لهذا الأمر. الرئيس نجيب ميقاتي، ليس حليفاً لهم. دافعوا عنه يوم استهدف بعد اغتيال اللواء وسام الحسن، لكنه خرج بعدها ليقول: “منعنا إقامة الإمارة الإسلاميّة في طرابلس”. لا يعرف هؤلاء من كان يُريد إقامة إمارة كهذه، لكنهم يعرفون أنهم كانوا المقصودين بالاتهام.

يشعر السلفيّون بأن حبل المشنقة بدأ يلتف حول رقابهم. هم يُريدون الانفتاح. يبحثون عن شخصيات يستطيعون التواصل معها وبناء اتفاقيات وتفاهمات. موقفهم من الشيعة ليس سلبياً. يُسمع منهم إشادة بشخصيات شيعيّة. بعضم يرى “حزب الله” قريباً فكرياً لهم، لكنهم لا يستطيعون أن يغفروا له دوره في سوريا.

تدور في اذهان السلفيين في طرابلس أفكار كثيرة لم تنضج بعد. خلاصة هذه الأفكار، الرغبة في التواصل مع مختلف الناس، والخروج من فكرة أنهم محصورون في طرابلس، والانطلاق صوب العمل السياسي، تحت عنوان تنمية مناطقهم. ينظرون إلى طرابلس والمنية والضنية وعكار، ويشعرون بالتمييز من قبل الدولة اللبنانيّة، “لكن عندما زرت عرسال شعرت بأن طرابلس في أفضل حال” يقول أحد رجال الدين السلفيين في إشارة إلى غياب الانماء بالكامل عن عرسال. يُحملون المسؤولية الأولى لهذا الأمر لمن هم نظرياً ممثلين لهذه المناطق.

الأحد يعتصم السلفيون في بيروت رافعين عنواناً واحداً، هو “الموقوفون الإسلاميون”. يقول بعض السلفيين، أن حلاً قضائياً عادلاً لهذا الملف، يُمكن أن يكون مدخلاً لمصالحة هذه الحالة مع الدولة اللبنانيّة. أمّا قرار الاستئصال فلا بد أن يُعيد إلى الأذهان معارك التوحيد في ثمانينات القرن الماضي، وهي معارك لم تُشفَ منها طرابلس حتى اللحظة.

* نشر في جريدة المدن الإلكترونية