
في آب 2018 كتبت:
“في الماضي القريب، كنت شابا مهزوما. شابا في مطلع الثلاثينيات، تقزّمت أحلامه لحدود تافهة. صحافي انتهت مهنته في لبنان؛ على الأقل كما كان يطمح لممارساتها. كائن سياسي هزم بالكامل مع هزيمة الربيع العربي. ربيع اجتاحته رياح المستبدين والإسلاميين الخماسينية. اكتملت فصول الهزيمة مع المقتلة السورية. رأيت بعيني الموت والهزيمة. تكاتفت طائرات البعث ولحى الإسلاميين، وهزمتنا. حلم الحرية صار بعيدا. حلم الديمقراطية دفن. الهزيمة قاسية. أقسى ما فيها، أن تكون فردا مهزوما. لا فكرة تحضنك، ولا جماعة تنتمي إليها. فرد مع مجموعة أفراد. تذكرت هؤلاء الأفراد عندما رأيتهم في حديقة سمير قصير. الاسم هنا يغش. هي ليست حديقة. هي بالحد الأقصى مصطبة، تجمع منذ انطلاقة الثورة السورية، مجموعة أفراد تذكر نفسها كل حين بأنها لا تشبه الديكتاتور. أفراد، يواجهون أيديولوجيات شمولية لا ترحم. نحن مهزومون أيها الأصدقاء. رفضهم الاعتراف بالهزيمة، يؤكد جبننا، نحن الذين اعترفنا وهربنا. أحسدهم على هذا الإصرار، وأشتاق لهذه اللحظات التي يرتفع فيها منسوب الأدرنالين في الجسم، ويقاومه العقل لإدراكه أنه ناتج عن إغراء كاذب. إغراء خادع. عودة إلى الهجرة. هربت من هزيمتي، وقررت النجاة مع ابني وزوجتي، علّه يحصل على حياة أفضل. ربما أعود إلى هزيمتي الأولى، لو هزمت هنا، وربما أعيش حتى أنفاسي الأخيرة في الوطن الجديد”.
كتبت حينها عن الهزيمة التي أكلتنا وعن الهروب من المستنقع اللبناني. خفت على ابني. على حاضره ومستقبله. خفت من عدم قدرتي على حمايته. دفعني الشعور بالعجز إلى الهروب. هاجرت. اعتقدت أنني نجوت. ثم أتت لحظة 17 تشرين الأول. انتفض اللبنانيون. صار توقيت بيروت يحكم صباحاتي. عشت الأمل رغم الشك. فرحت. تحمست. وانكسرت مع انكسار المنتفضين.
بت أشعر بالذنب كلما ضحكت، كلما أكلت، كلما غفوت. القتلة والسارقون لحقوا بنا حيث هربنا. لا يمكننا الهرب في هذه اللعنة
الانتفاضة جميلة، لكن الواقع بشع. لم يكن الانهيار بعيد. رآه كثيرون منا مهرولا. كُتب عنه وعن شكله. كذّب السياسيون توقعاتنا. ميشال عون. رياض سلامة. غازي وزنة. سعد الحريري. نبيه بري. كلهم قالوا إن الانهيار لن يأتي. مرشدهم، لم يقل الكثير عن الأمر… سوى أننا سننتصر. هو افترض انتصارنا في معركة لا كلمة لنا فيها. معركة لا نرغب بها. لا نعرف ما هي أصلا. أو ربما نعرف، ونخشى الإعلان. نخشى لأن سيفه على رقاب أصحابنا. هي معركة الدفاع عن مرشده الأعلى. الدفاع عن مرشد المرشد. ونحن، كلبنانيين في مئوية بلدهم الأولى، ما علينا سوى الجوع دفاعا عن طموحات مرشد المرشد.
ما علينا. لنعد إلى لبنان الذي نعرف. لبنان الأصحاب الذين يأتي صوتهم عبر الهاتف متكسرا. يرسل علي لي صورة من شاطئ صور ويقول: أتصدق؟ هذا شاطئ صور يوم السبت. أتصل به سائلا عن أحواله. يرد بالحديث عن المدينة التي نحبها سويا: “صور يا ثائر، باتت مدينة أشباح”. أتذكر حرب تموز؟ يسألني. ولا ينتظر جوابا ليضيف: “صور صور وضعها أسوأ من فترة حرب تموز”.
نحلل سويا. أستمع له. يشتم السياسيين جميعا. ويتمنى حلا. لا يعرف شكله ولا مضمونه، لكنه يقول: “فرنسا لن تتركنا”. أحاول أو أقول له إن الآتي أسوأ، لكنه يدرك. يقول لي: “في أيلول سينتبه الجميع إلى أن المدارس الخاصة لن تستطيع الاستمرار. ستقفل أبوابها لأن الأهالي غير قادرين على دفع الأقساط.. عشرات آلاف الأساتذة سيتشردون”.
اهتمام علي بالتعليم مفهوم. هو أستاذ مدرسة. لكن الأهم، هو ابن منطقة شكّل التعليم وسيلة أهلها للانتقال إلى الطبقة الوسطى. الخيارات الأخرى محدودة. أبرزها الهجرة، لمن استطاع لها سبيلا؛ الالتحاق بإحدى الميليشيات؛ العمل في القطاع العام؛ التجارة؛ الزراعة والمهن اليدوية.
يختم علي حديثه بالقول: “المهم انك تركت البلد. برافو. هيدا أفضل شيء عملته لابنك”.

لم أستطع النوم تلك الليلة. كلماته لم تغاردني. أنا هربت. أنا أدرك ذلك. كتبته. قلتله للأهل والأصحاب. أنا هربت في العام 2018.. لأنني هزمت. ولأنني اعترفت بهذه الهزيمة بعد خمس سنوات على حصولها. لم يتهمني بشيء. قال علي كلماته بكل حب. لكنني لم أقو على النوم. اجتاحتني الكوابيس كلما أغمضت عينيّ. المشهد أسود. فكرت بالأمر. أنا أشعر بالذنب. لكنني لم أقترف شيئا. لست أنا من سرق البلد. ولا من مكّن مصارفه من رقاب اللبنانيين. ولا أنا من تولّى قطاع الكهرباء ونظّم عمليات الهدر والسرقة فيه من انتهاء الحرب الأهلية. ولا أنا مهندس الاقتصاد اللبناني بعد الحرب. ولست من منع التنمية الاقتصادية للأرياف. لا من قتل ما تبقى من نقل عام ومنع إعادة إحياء القطاع. وقطعا، لست أنا من حوّل الجامعة اللبنانية إلى مزرعته الخاصة. والأهم، لست أنا من يحمل سلاحاً بوجه اللبنانيين؛ يغتال بعضهم حينا ويكسر انتفاضتهم حينا آخر يبتزّهم دوما.
لن أسامح. لن أسامح كل واحد فيكم. أنتم القتلة. أنتم من سرقنا. من أذلنا. من اجتاح حلمنا ولوثه. لن أسامح وكثيرون مثلي. لن نسامح. سننتقم منكم يوما. نعرفكم واحدا واحدا.. ونعرف من هو مرشدكم
لم أشعر بالذنب إذا. لم أفعل أيا من الموبقات. بالعكس، أنا واحد من كثر رفضوا ما كان يجري في البلد. تحادثت من أصحاب، أحدهم في بريطانيا، وآخر في كندا والبقية في أميركا. جمعنا الشعور بالذنب. والأسوأ الشعور بالعجز. أحدنا ذهب إلى المتجر لشراء ثياب، لكنه ترك ما انتقاه في المحل، عندما حوّل المبلغ في ذهنه من دولار إلى ليرة لبنانية. بت أشعر بالذنب كلما ضحكت، كلما أكلت، كلما غفوت. القتلة والسارقون لحقوا بنا حيث هربنا. لا يمكننا الهرب في هذه اللعنة.
تقول لي صديقة من بيروت: لا تشعر بالذنب. هم المذنبون. لا تشعر بالعجز. بل قلّ كل الحقيقة. هم يريدون تغيير الوقائع. نحن سكتنا، لأننا بتنا في دولة في دولة بوليسية. نخاف على حياتنا. نخاف من الاعتقال، من الموت. قالت: “أخاف لو اعتقلت واغتصبوني.. ألا يصرخ أحدا دفاعا عني. أنت ومن هرب يمكنكم أن تصرخوا. يمكنكم أن تكشفوا ما يريدون دفنه من وقائع. أن تجعلوا من نضالنا هنا، أمرا مرئيا”. حاولت إسكاتها. لم تقبل. “يجب أن تسمع هذا الكلام. أنت لست مذنبا. هم المذنبون. من حكم لبنان ومن يحكمه اليوم. من يرفع سلاحه بوجهنا. من يحوّل القضاء إلى مضبطة اتهام. من دمر ما تبقى من إعلام. نحن خائفون. كونوا صوتنا”.
كدت أبكي. لكن كيف لي ذلك. أنا أجلس في منزل جميل. أراقب العصافير تأكل في حديقتي الصغيرة. أعمل. أدرس. أحلم. أشاهد ابني يكبر. أفكّر بذاك الشاب الذي صرخ مطالبا علبة حليب. أنا في وضع جيد، كيف لي أن أبكي.
صوت آخر يعلو في رأسي. وذاك الذي صار يأكل وجبة واحدة في اليوم، ماذا فعلت له؟ وماذا فعلت لتلك العائلة التي خسرت كل أحلامها ومدخراتها.. وخسرت القدرة على شراء الحليب والحفاضات لمولودها الجديد؟ وماذا فعلت للصبية التي كانت تحضر ملفها لإكمال دراستها العليا في جامعة في أوروبا، وإذ بكل ما تملك هي وعائلتها لم يعد كافيا لوضع الطعام على الطاولة. ماذا فعلت لبرنار، عدى أنك تتذكر تعليقاته كلما اشتريت أو أكلت النوتيلا؟
صوت آخر يعلو في رأسي. وذاك الذي صار يأكل وجبة واحدة في اليوم، ماذا فعلت له؟ وماذا فعلت لتلك العائلة التي خسرت كل أحلامها ومدخراتها.. وخسرت القدرة على شراء الحليب والحفاضات لمولودها الجديد؟
أحاول إسكات هذا الصوت. لا أستطيع. الصوت عالٍ. يجب أن أنام. هناك ورقة بحثية للجامعة يجب أن أبدأ بكتابتها غدا، فموعد استحقاقها بات قريبا. من سخرية القدر أن الورقة حول العقوبات الأميركية على حزب الله. هذه العقوبات، لمن لا يتذكر، بدأت في مطلع هذه العشرية لاستهداف أعمال الحزب في المثلث الحدودي في أميركا اللاتينية.. ثم في غرب أفريقيا. ليس مهما، سأكتب الورقة. سأمارس حياتي بشكل عادي. لكن الصوت لا يسكت. يسأل: ماذا فعلت؟
ربما لم أفعل الكثير. ربما هزمت مع هزيمة الكثيرين مثلي بسبب أخطائنا. هذا صحيح. أخطأنا في سوريا وفي لبنان. لكننا أفراد غير منظمين. هذا خطأنا الأكبر. ظننا في لحظة أن الحلم والحق كافيين. صرخنا في مصر: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”. الشعار لم يكن كافيا. رصاص العسكر أقوى. لعنة الإسلام السياسي أقصى.
ربما لم أفعل الكثير. لكنني لم أسكت، ولن أسكت. واليوم أضيف: لن أسامح. لن أسامح كل واحد فيكم. أنتم القتلة. أنتم من سرقنا. من أذلنا. من اجتاح حلمنا ولوثه. لن أسامح وكثيرون مثلي. لن نسامح. سننتقم منكم يوما. نعرفكم واحدا واحدا.. ونعرف من هو مرشدكم. أما نحن فلا يمكنكم أن تقتلونا جميعا. فنحن صرنا لعنتكم التي لا تغيب عنها الشمس. أتذكرون تلك الإمبراطورية التي قيل إن الشمس لا تغيب عنها. الإمبراطورية انتهت، والشعوب لم تنته. ونحن صرنا شعوبا. من أقصى الأرض إلى أقصاها. لا تغيب الشمس عنا.. ولا عن رغبتنا بالانتقام لناسنا الذي قتلوا ونُهبوا في لبنان.. لأبنائنا الذين لا يتحدثون العربية.. لأحلامنا التي قُتلت. الشمس لن تغيب عن رغبتنا في بناء وطن. سنحرر وطننا منكم. هذا وعدنا لكم. سنحاسبكم.
يجمعنا الشعوب بالذنب من المحيط الى الخليج يا صديقي، رغم اختلاف الأقدار. الشعور بالعجز، بالذنب من العجز، ثم بالشفقة على النفس من هذا الذنب، مشاعر مركبة معقدة تضاهي تعقيدات حياتنا وغرابتها. عش حياتك وازرع الأمل في نفس ابنك، لعل الأبناء يحققون شيئا مما عجزنا عنه…كل المحبة