ميقاتي الذي أعطاه الله

“لربك في عباده شؤون وشجون. يُعطي من يشاء ويحرم من يشاء”. الرئيس نجيب ميقاتي مثلاً: أعطاه الصحة، والعائلة السعيدة والطول الفارع.. والثروة الكبيرة، وطه الشقيق المحنك في كل شيء وهو الذي كتفه إلى كتف شقيقه مجازاً بالطبع. وفي السياسة، أعطى الله ميقاتي خصوماً يُعتمد عليهم وحلفاء يُعتمد عليهم أيضاً. أعطاه الجنرال ميشال عون.

كلما ضعفت شعبية نجيب ميقاتي، أعطاه الخصوم حقنة منشطات. هل من يذكر أن هناك اعتصاماً مُقابل منزله في طرابلس؟ لا تزال الخيم على حالها، وحيدة في معرض رشيد كرامي الدولي. هذه الخيم نُصبت بعد أيام من اغتيال اللواء وسام الحسن. كان لسان حال أهل طرابلس يلوم ميقاتي. اتهموا أطرافاً في حكومته بالاغتيال. لكنهم كانوا يُدركون جيداً أنه حمى وسام الحسن في عزّ الحملة عليه. وأي رئيس حكومة آخر كان قد يُقيله رضوخاً للضغوط العونيّة. برأيهم عمر كرامي كان ليقوم بهذا الأمر. لماذا إذاً اتهامه بالمسؤولية عن الدماء؟ فتح تيّار المستقبل أمام ميقاتي منفذاً ليخرج من الضغوط. لم تعد القصة قصة اغتيال الحسن، بل باتت قصة عزل ميقاتي.

بالعودة قليلاً إلى الوراء. تخلّى تيّار المستقبل عن دار الفتوى ومفتيها نهائياً، في اللحظة التي كان ميقاتي يحتاجه بها. وجد المفتي وميقاتي نفسيهما في خندق واحد. دافعا عن بعضهما بعضاً، بل إن المفتي حمى ميقاتي، الذي عاد ليتخلى عنه اليوم.

عرف ميقاتي من أين تؤكل الكتف. بنى علاقة مع النائب وليد جنبلاط، فوضعه الأخير في موقع القادر على التفاوض وفرض شروطه في النقاش الحكومي. أمّن له جنبلاط شبكة أمان في بيروت وخارجها. جعل من جلوسه في السرايا ممكناً وضرورياً.

لكن ميقاتي ليس محظوظاً فقط. هو عرف كيف يُمارس السياسة. أعطى الأمان للطبقة المالية التي تُدير البلد. الأدق، أنه تركها تُدير البلد على طريقتها. أمّن المخرج الفعلي لكل الممارسات الخاطئة لمرحلة الرئيس فؤاد السنيورة، إذ كما يقول شربل نحاس، فإن ميقاتي (الذي ثلث حكومته عونية) لم يرفع موازنة إلى مجلس النواب، بينما قدمها السنيورة متأخراً. عدم تقديم الموازنات هو تعبير عن عدم قدرته على إدارة الدولة. لم تنجز حكومته شيئاً في هذا المجال. الفراغ في الإدارة العامّة يزداد يوماً بعد آخر، وكل الكلام عن التعيينات الادارية يذهب هدراً في الهواء. يكاد الفراغ يصل إلى المؤسسات العسكرية، مع اعتراف فريقه بعدم القدرة على تعيين مسؤولين عسكريين. لكنه عرف كيف يُغازل اللواء أشرف ريفي، إلى حد أن بعض من في تيّار المستقبل بدأ يخشى من ريفي ومن تحالفه مع ميقاتي في وجه المستقبل ليحصدا سوياً مقاعد طرابلس وبعض مقاعد الشمال.

عرف ميقاتي كيف يتفاعل مع الزواج المدني. بطريقة حادة عبّر عن المزاج السني. استنسخ كلام المغدور رفيق الحريري. في المقابل، سعى الرئيس سعد الحريري لأن يكون مبادراً في اللحظة الانتخابية. تكرر الأمر في عرسال. حصل ما حصل. وقع الجيش والبلدة في فخ، الخطأ أو النية السيئة. ذهب ميقاتي إلى وزارة الدفاع، قال إنه يدعم الجيش، مخففاً من حدة الهجوم على عرسال. انتشر الامر في طرابلس على الشكل التالي: ميقاتي اصطدم بوزير الدفاع وبقائد الجيش ليحمي عرسال. وقبل هاتين الحادثتين، قدّم ميقاتي نفسه مدافعاً عن حقوق السنة في وجه “حزب الله”، فموّل المحكمة الدولية وخاض معارك تحت عنوان الدفاع عن موقع رئاسة الحكومة. لكنه فشل في الامتحان السوري، وهو فشل قد ينفجر في وجهه في أي لحظة.

في المحصّلة، يبدو أن واقع الأرض في طرابلس لصالح نجيب ميقاتي. الأرقام تشير إلى أن انتخابات حالية تُعطيه تفوقاً على المستقبل. حافظ ميقاتي على وتيرة مقبولة من “الرشوة” الانتخابية، (كل مساعدات القوى السياسيّة تُعد رشوة انتخابية) في وقت تراجعت قدرات المستقبل. عرف كيف يستفيد من وجوده في الدولة. استخدم الهيئة العليا للإغاثة جيداً، وهي من المؤسسات القليلة التي عيّن فيها مديراً مقرباً منه منذ الأشهر الأولى من وجوده في السراي. علم أن البلد في مرحلة استثنائية، لا حاجة لمؤسسات الدولة بل للهيئة العليا للاغاثة. لم يحصر عمله في طرابلس بل عمل في عكّار والضنية والمنية، معتمداً على عدد من الوجوه الشبابية الجديدة وبعض الوجوه القديمة التي تملك حيثية مقبولة. لكنه لم يستطع ضبط أمن طرابلس الذي تفلّت من عقاله.

لم يدخل ميقاتي النقاش حول قانون الانتخاب، إلّا بالرفض المطلق للقانون الارثوذكسي حين أيقن انه توفي، وأن الشارع السني يرفضه. قال كلاماً حاداً: إن هذا القانون يُعيد البلد إلى مرحلة ما قبل الطائف في كل تجلياتها. لم يُدافع عن مشروع حكومته، وهو الذي يُراهن أن المشروع الذي سيُقرّ هو المشروع المختلط، أي مشروع فؤاد بطرس مع بعض التعديلات (وهذا الكلام قبل تقديم مشروع الحكومة). الشق النسبي في القانون يُؤمّن لميقاتي كتلة برلمانية مقبولة. وحتى هذه لا يخوض ميقاتي معركتها، بل إن جنبلاط هو من يخوضها عنه. قانون الستين يسمح له بالعودة إلى البرلمان على رأس كتلة تضم أكثر من نائبين، إذا لم يستعرّ الخطاب المذهبي. ربما، هو مرتاح شعبياً الآن، لكن تجارب الدورتين الانتخابيتين السابقتين تُشير إلى قدرة المستقبل على تجاوز تراجعه في حال وجد عنواناً جذاباً. الثورة السورية حاضرة.

* نشر في جريدة المدن الإلكترونية

رأيان حول “ميقاتي الذي أعطاه الله”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: