في مطعم في المتن، جلسنا لأكثر من ساعتين في محاولة لفهم المؤامرة الكونية على التيّار الوطني الحرّ وجنراله ميشال عون. جلسة كان فيها نائب عوني ورئيسا بلديّة ومهندس ومحام ورجل أعمال.
مثل أي جلسة فيها نائب ورئيس بلدية، يجب أن تكون الدقائق الأولى للنقاش حول شاحنة إسفلت وشارع لم يُعبّد وعدم تقدير انجازات النائب. أو رخصة لتحويل ساعة الكهرباء من عادية إلى صناعية لتخفيض حجم الفاتورة. يعني خلاصة عمل النائب كمعقّب معاملات.
يبدأ النقاش. مداخلة مطوّلة للنائب حول قيمة القانون الارثوذكسي. بنظره حقق القانون النتيجة الأولى حتى الآن وهي شق صفوف الرابع عشر من آذار. هذه تستحق كأساً. لكن أين هو الخطاب العلماني الذي جاء به الجنرال؟
يتذكر أحد العونيين على الطاولة عبارة عون يوم عودته في السابع من ايار ٢٠٠٥: “إن قلت كلاماً طائفياً فانبذوني”. يذكرها في محاولة إخراج المزيد من نائبه. يُحاول هنا النائب شرح كيف أن القانون الارثوذكسي يُعد الخطوة الأولى نحو العلمنة. لا يُفهم من تلك المقاربة إلا تكرار عبارة أن المسيحيين خائفون.
كيف ذلك؟ يُكمل شرحه: يشعر المسيحيّون بالقلق في المنطقة كلها. “هناك أصحاب اللحى الذين يُريدون قتلنا. كيف لنا ألّا نشعر بالقلق ونحن محاطون بأحمد الأسير وسلفيي طرابلس؟ ألا تسمعهم؟ إذهب إلى سجن رومية وتعرّف على ما يجري هناك. ألم تسمع كيف قتلوا ذلك السجين؟”. مجادلة الرجل بأن الدولة اللبنانيّة لم تتعاط مع ملف الاسلاميين إلا بشكلٍ أمني، وأنها لم تُحاكم حتى اللحظة الموقوفين الاسلاميين، لا يرد عليها إلا بالضحك.
أيضاً، يرفض تحميل وزير العدل المسؤولية، وهو من الحصّة العونية. يقول: “لقد بنينا لهم قاعة للمحاكمة، ماذا يُريدون غير ذلك؟” ربما أن يُحاكموا في هذه القاعة! لا يشعر أن واجبه الدفاع عن مواطن مسجون بدون سبب. لا يشعر بأنه نائب لكل اللبنانيين، أو هي ترجمة لنظرية عدم تساوي اللبنانيين في الحقوق، وذلك من منطلقات طبقية وثقافية. الكلام العوني عن رفض المظاهر الدينية لفئة واستخدامه انتخابياً تعبير عن فوقية مبطنة، تعود جذورها إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي.
حسناً، هناك من يقول إن القانون الارثوذكسي سيؤدي إلى المطالبة بأن تتمثّل كل طائفة بحجمها. أيقبل العونيون بذلك؟ هنا، يُحمّل مسؤولية “اختلال التوازن الديموغرافي” إلى تجنيس أكثر من ثلاثمئة ألف مسلم. برأيه لا يُمانع التيار الوطني الحرّ بقانون يعتمد النسبية ولبنان دائرة واحدة، لكنه غير مستعد لأن يخوض معركته، بل يخوض معركة الأرثوذكسي. ثم يُضيف بأن الرئيس نبيه بري يرفض النسبية ولبنان دائرة واحدة! الموضوع لا يحتمل النقاش، هذه حقيقة، برأيه.
وعندما يُخطئ أحد الجالسين ويتحدث عن الفساد في وزارة الطاقة، أو في الحدّ الأدنى التأخير في وصول السفن، وأن الوزير جبران باسيل يتحمّل المسؤولية، يبدأ الهجوم المضاد المعد سلفاً. “ألم يسمع أحدكم بفساد تيار المستقبل؟ وكيف حماهم نبيه بري في المجلس؟”. تُذكره بأن بري حليف التيار. يضحك كثيراً. ثم يقول إن البواخر تأخرت لأن الشركة المتعهدة لم تدفع الكفالة المطلوبة. لكن مسؤولية من هذه؟ إنها مسؤولية سعد الحريري ونجيب ميقاتي برأيه. ماذا عن وزارة الاتصالات؟ لا أخطاء في هذه الوزارة. ألم يتأخر الوزير نقولا صحناوي في التفاوض مع الشركتين المشغلتين، فاضطر مجلس الوزراء لأن يُمدد لهما شهراً واحداً. يرد بأن سهيل بوجي هو المسؤول. ثم يُضيف: سيصدر قريباً كتاب عن الفساد سنستعرض به فساد الآخرين.
ثم تأتي حصة اللاجئين السوريين. يعملون مكان اللبنانيين ويُدخلون السلاح إلى لبنان وسيطردوننا من أماكننا وكل المعزوفة، لكنه يرفض اتهام تياره بالعنصرية. يتفاعل الجالسون إيجاباً عند الحديث عن اللاجئين السوريين أو الاسلاميين، لكنهم يتفاعلون سلباً مع النائب عند النقاش حول فساد وزراء التيّار. ربما هذا يُفسّر “السياسة العونية” الجديدة.
طوال الساعتين، كان انفعال النائب العوني، يُشير إلى رغبته في إقناع الجالسين بموقفه. كيف لا، وخليط الجالسين يُشكّل نموذجاً للحالة الشعبيّة للتيّار الوطني الحرّ. هؤلاء الـ”elite”، يعتمد عليهم عون كبنية شعبية، وكوسيط للتواصل مع الآخرين، ولخلق رأي عام مسيحي متزمّت، وهو ما يُفسّر إصرار النائب على عبارة: “أيدينا لست ملوّثة بالدماء. نحن لسنا ميليشيا”.
تشعر هذه الطبقة بأن مصالحها مهددة بسبب الفساد الذي ساد في البلد. هي تريد حصة منه، أو وقفه. لكنها تشعر بتفوق على الآخر، المختلف ثقافيا أو دينياً، أو في الجنسية حتى لو تحالفت يوماً معه في السياسة. الخطاب الإقصائي الحاد يُحرك مشاعر هذه الطبقة. يرفع مستوى الأدرنالين العصبوي إلى مستوى يمنع ما ستنتجه هذه الخيارات السياسية مستقبلاً.
في نهاية الجلسة يتطرق النائب إلى اليسار، طارحاً فرنسا مثلاً. يشرح ما الذي كان يجري معه بسبب النظام الاجتماعي في فرنسا. يُشير إلى أنه مضطر لأن يدفع ٥٠٠ يورو إضافية عن كل ولد من ولديه، لأنه كان يجني الكثير من المال. يسأل: أتعلمون لماذا؟ لتذهب الأموال إلى أبناء أحد الغرباء ممن لديهم سبعة أو ثمانية أولاد ويرفضون العمل ويعيشون على المساعدات الاجتماعية. لذلك يرفض النائب أي نظام فيه حماية اجتماعية لأنه يُحفز على عدم العمل. لا ينتبه إلى أنه كان بدوره غريباً في فرنسا.
* نشر في جريدة المدن الإلكترونية